"كل مَن يقع له جناحان"، كتبت الشاعرة النمساوية إنغيبور باكمان في واحدة من قصائدها. وبهذا البيت الشعري تفتح الكاتبة الجزائرية الفرنسية سهام بوطاطه نصّها السردي "كآبة المقنين" الذي صدر حديثاً عن دار "سوي" الباريسية، وتروي فيه تاريخ الجزائر من فترة الاستعمار حتى اليوم، في ضوء شغف أبناء وطنها بطائر الحسّون وغنائه.
لقاء بوطاطه الأول بهذا العصفور حصل أثناء طفولتها، حين كانت تمضي عُطَلِها الصيفية تارةً في سورية، موطن والدتها، وتارةً في الجزائر، موطن والدها، قبل أن تُنجِز وثائقيين حوله بثّتهما إذاعة "فرانس كولتور": "نشيد الحسّون" و"أناقة الحسّون". وعلى هذين الوثائقيين ترتكز لحبك سرديتها الآسِرة التي يتبيّن لنا فيها أن الإنسان الجزائري يربّي الطيور منذ القِدَم، لكن الحسّون هو طائره المفضَّل، كما يشهد على ذلك حضوره في معظم منازل العاصمة الجزائرية. أما لماذا هذا الطائر تحديداً، الذي يحمل في الجزائر اسم "مقنين"، فلأدائه الغنائي الفريد وقدرته على تقليد أي صوتٍ أو تغريدة تصل مسمعه، وخصوصاً لكونه يغنّي جغرافيا أصوله. فمثل لكنات البشر، تختلف مدوّنته الموسيقية وفقاً لمكان ولادته.
في هذه السردية، يتبيّن أيضاً لنا أن الحسّون يحظى في المغرب العربي بـ "أخوية" تقيم علاقات خاصة معه. وبفضل أعضائها التي التقت بعدد كبير منهم، الواحد تلو الآخر، تمكّنت بوطاطه من جمع معلومات كثيرة ومثيرة حوله. هكذا نعرف أن وحدهم الرجال يربّونه في الجزائر ويدلّلونه ككائنٍ غالٍ على قلوبهم. ولأنه قادر على تقليد تغريدات كل العصافير في الطبيعة، يعمدون إلى تلقينه إياها بواسطة تسجيلات سمعية. ومع تواريه المؤسف من بيئته الطبيعية بسبب صيده غير المشروع وتلوّث محيطه والتمدّن الزاحف، تحوّل إلى عصفور نادر ومطلوب جداً لا يتردد جزائريون كثر في شرائه بأسعار عالية جداً، خصوصاً حين يكون موهوباً في الغناء. من هنا تهريبه من المغرب إلى داخل البلاد على يد شبكات منظّمة، وتشكيله مصدر دخل مهم للشبّان الجزائريين العاطلين من العمل.
غناء الامل
في سردية بوطاطه، نعرف أيضاً أن غناء الحسّون يحثّ على التأمل والارتقاء، ويتمتّع ببُعدٍ صوفي، وبالتالي له تأثير مسكّن في النفوس، إلى جانب فتحه للمصغي إليه فضاءً حميمياً. ولا عجب إذاً في حفظه مثل كنزٍ ثمين، علماً أن ثمة تسجيلات كثيرة له على شبكة الإنترنت، لكن هل هي الأفضل؟ حول هذه النقطة، تقول الكاتبة: "التسجيلات هي كنز مقتني هذا العصفور. حتى إسماعي إياها كان صعباً عليهم. كما لو أنهم كانوا يخافون أن أسرقها منهم". وتضيف: "يقال إن الحسوّن، في السبعينيات، كان قادراً على تقليد 14 تغريدة مختلفة، بينما لم يعد يعرف اليوم سوى أربع أو خمس تغريدات. وهذا من دون شك دليل على تواري العصافير حوله، وبالتالي على تقلّص التنوّع البيئوي بشكلٍ خطير".
لكن أكثر من عدد تغريداته أو ثوبه الفريد بألوانه، تعود قيمة الحسّون، بالنسبة إلى الكاتبة، إلى طبيعة غنائه ورمزيته: "كشف المقنين لي جزائر بعيدة من الكليشيهات. ومثل الموسيقى التي هي كل ما يتبقّى للناس الذين فقدوا كل شيء، يمنح هذا العصفور أولئك الذين يربّونه فرصة للحلم والفرار من واقعهم الصعب، بغنائه، إلى جانب قدرته على إخراجهم من تحفّظهم وحثّهم على التعبير عن مشاعرهم وانفعالاتهم ومشاكلهم بحريّة أكبر، ما إن يتم التطرّق إلى موضوعه". وهو ما يجعل منه، في نظرها، استعارة للإنسان الجزائري الذي يعيش داخل وطنه أو خارجه. "إنسان لا يغنّي، بل يبكي".
رابط عاطفي
أكثر من ذلك، يشكّل غناء الحسّون بالنسبة إلى جميع الذين هاجروا إلى فرنسا بحثاً عن لقمة العيش، مثل والد بوطاطه، وسيلة للمحافظة على رابط عاطفي مع وطنهم الأم، إلى جانب تلطيفه مشاعر الغربة والحنين التي تتسلّط عليهم. هذا ما قاله لها سائق سيارة أجرة في فرنسا وتاجر عصافير عجوز في مرسيليا وأشخاص آخرون كثر التقت الكاتبة بهم بالمصادفة وتنقل لنا شهاداتهم المؤثِّرة في نصّها.
لكن قيمة "كآبة المقنين" لا تكمن فقط في كرّ بوطاطه داخلها خيط الأساطير التي تتعلق بالحسّون، وسعيها إلى سبر سرّ شغف الجزائريين به، بل في تمكّنها أيضاً من قراءة الأحداث الكبرى التي شهدها وطنها خلال تاريخه الحديث في ضوء هذه الأساطير، انطلاقاً من مسيرة عائلتها. وفي هذا السياق، تتوقّف بنا عند مرحلة الاستقلال وأوهامها الضائعة، عند العشرية السوداء التي أدمت الجزائر، عند عهد بوتفليقة الذي عرف هذا البلد خلاله انحداراً خطيراً على جميع المستويات، وخصوصاً عند الحراك السلمي الشعبي الذي انطلق مطلع 2019 وأجبر بوتفليقة على التنحّي عن سدة الحكم وأطاح رموز حكمه؛ حراك أجّجه غناء الشبّان الجزائريين ــ "حساسين" سوسطارة وبلكور وباب الواد ــ الذين واجهوا السلطات السياسية خلال التظاهرات بأناشيدهم الثورية. وبقيامها بذلك، تجعلنا الكاتبة نتأمّل تحليق شعبٍ بكامله، يعشق العصافير، وقرر في لحظة غضب مشروع تحطيم جميع الأقفاص التي تحدّ من حرّيته وتمنعه من فرد جناحيه.