منذ سنوات عدة ينظر الباحثون والجامعيون وأهل الأدب إلى كتاب "نظرية الرواية" للناقد المجري جورج لوكاتش بوصفه واحداً من الكتب الأساسية التي صدرت حول هذا الموضوع طوال القرن العشرين، أي منذ صدوره للمرة الأولى عام 1920 بعد ثلاثة أعوام من شروع الباحث، الشاب حينذاك، في تحريره. ولكن إذا كان سيعرف عن لوكاتش ترجعاته العديدة وتقلباته السياسية والفكرية تبعاً للظروف السياسية كما سنرى بعد قليل، فإن كتاب "نظرية الرواية" هو بالتأكيد العمل الذي، من بين كل كتابات لوكاتش، وربما إلى جانب "التاريخ والوعي الطبقي" هو الكتاب الذي ستطاوله ضروب التراجع والنكران أكثر من أي عمل آخر، وتحديداً منذ بدايات انتشاره عند مفتتح العشرية الثالثة من القرن الفائت، أي منذ اكتشف لوكاتش أعمال كارل ماركس فابتعد عن بداياته الهيغلية التي كانت قد طبعت هذا الكتاب. لقد أنكر لوكاتش كتابه هذا على الفور ورماه في مهب النسيان حتى كان عام 1962 حين أُعيد اكتشاف الكتاب في أصوله الألمانية وأعيد اعتباره ليصبح واحداً من أهم وأشهر كتب مؤلفه.
ماركسية ما قبل ماركس!
ومع هذا لو قرأ المرء كتاب "نظرية الرواية" بإمعان لاكتشف كم أن المؤلف ظلم كتابه، وحتى من وجهة نظر تحولاته الماركسية اللاحقة. فإذا كان "نظرية الرواية" يستند أساساً إلى مبدأ "البنية الدينامية الدالّة" في تحليله للنماذج الثلاثة من الأدب القصصي (الملحمة، والتراجيديا والرواية) والتي يرى الباحث أنها عبرت تاريخ هذا النوع منذ فجره الأول وحتى نهايات القرن التاسع عشر، وهو مبدأ استند هيغل إليه تماما في تحليله، فإن الاستكمال اللوكاتشي للتحليل لا يبتعد كثيراً عن الماركسية حتى ولو أن لوكاتش لم يكن يعرف ماركس حين وضع الكتاب. لكن الصدفة لم تلعب دوراً. فإذا كان لوكاتش قد أكمل هيغل بالطريقة نفسها تقريباً التي كان يمكن ماركس أن يكمله، فما هذا إلا لكونهما معاً انطلقا من نوع من يسار هيغلي مفترض أوصلهما إلى النتائج ذاتها. بيد أن هذا كان من الصعب استنتاجه بالنسبة إلى لوكاتش الذي ما إن اكتشف ماركس وراح يخوض الصراع السياسي والأيديولوجي منطلقاً منه، حتى خيّل إليه أن كلّ ما لا يتقيّد بالجمودية الماركسية سيكون مخطئاً. وهكذا ضحّى بهذا الذي يمكن اعتباره اليوم من أهم كتبه على الإطلاق.
فما الذي في هذا الكتاب؟ ينقسم "نظرية الرواية" إلى قسمين يتابع أولهما تاريخ النوع القصصي وأشكاله الثلاثة الرئيسية، ليصل دائماً إلى استنتاج واحد وهو الارتباط الحتمي بين تتابع الأنواع والمسار التاريخي للحضارة الإنسانية بحيث أن الأنواع إنما ولدت من رحم علاقة الإنسان الفرد بالعالم – ولعل ها هنا بالذات ما "أرعب" لوكاتش تجاه كتابه يوم تمركس! – وكيف تطورت تلك العلاقة في التعبير القصصي عنها من عصر الملحمة حين كان العصر مغلقاً على ذاته منسجماً مع نفسه، يشكل فيه الفرد والعالم كلاً واحداً حيث كان "الإغريقي يجيب عن أي سؤال يطرحه على نفسه، حتى قبل أن يطرحه" بحسب تعبير لوكاش؛ ولكن مع مجيء المسيحية تحطّم ذلك الانسجام، لا سيما من خلال "التركيز على مفهوم الخطيئة الذي كسر اتحاد الفرد بالعالم، فلم تعد هناك عفوية يتحرك الفرد فيها. صار عليه أن يشتري وجوده في العالم ليستعيد هويته". ومن ثم فإن رؤيتَيْ العالم هاتين باتتا تجدان التعبير عنهما عبر أشكال أدبية تطورت تبعاً لـ"دينامية اجتماعية – فلسفية" هيمنت على "التراجيديا الحديثة" لتوصل في النهاية إلى الشكل الروائي الذي ساد بخاصة في القرن التاسع عشر واصلاً إلى ذروته مع تولستوي.
أما القسم الثاني من الكتاب فيخصصه الكاتب للتحدث بإسهاب عن نماذج من كتابات تنتمي إلى المراحل الثلاث بدءاً من المثالية المطلقة كما يعبر عنها ثربانتس في "دون كيشوت"، وصولاً إلى "يوتوبيا" تولستوي مروراً بكل أنواع الرومانطيقيات التي تتوسطها رواية غوته "سنوات تعليم فلهلم ماستر".
صورة لتناقضات عصر بأكمله
ربما كانت حياة ومغامرات جورج لوكاتش الفكرية قادرة أكثر من غيرها على رسم صورة للتناقضات والصراعات التي عاشها الفكر الماركسي وأساليب تطبيقه العملي في قرننا العشرين هذا. فهذا الفيلسوف المجري، الذي يعرف أيضاً وبخاصة بكونه ناقداً أدبياً ورجل سياسة، تمكن عبر العديد من كتبه، ولكن بخاصة عبر مرتين قام فيهما بنقد ذاتي عنيف لأفكاره، وعبر مشاركة فعالة في الحياة السياسية لبلده، ودائماً من موقع المشاكسة، تمكن من أن يصنع لنفسه مكانة قلما حظي بها أي مفكر آخر مماثل له من مفكري هذا القرن.
كان جورج لوكاتش في الثالثة والثلاثين من عمره حين انتسب إلى الحزب الشيوعي المجري بعد مغامرات فكرية عدة، ولعل من أغرب الأمور في هذا المجال أنه فور انتسابه للحزب، وحين قامت جمهورية بيلا كون الاشتراكية العابرة في المجر، خلال ربيع وصيف عام 1919، عُيّن لوكاتش في منصب "مفوض الشعب لشؤون الثقافة" أي وزيراً للثقافة، وذلك على الرغم من هرطوقيته النسبية في مجال فهمه وتفسيره للفكر الماركسي، وهي هرطوقية قادته بعد تلك التجربة بسنوات قليلة إلى نشر كتابه الأشهر "التاريخ والوعي الطبقي" الذي إذا ما قرأناه في عمقه سنجده على تناقض شبه تام مع الفكر الماركسي، بل سنجده هيغلياً من حيث ترجيحه كفة الوعي في مجال الفعل التاريخي على كفة الوجود. فكما هو الأمر لدى هيغل، وعلى عكس ما يعبر عنه كارل ماركس، نجد في كتاب لوكاتش هذا أن الوعي (الفردي أو الطبقي) هو الذي يحدد مكان صاحبه وأساليب نضاله، وليس الوجود هو ما يحدد الوعي. هذا التناقض الأساسي بين ما ينادي به لوكاتش وبين ما يعبر عنه ماركس في إحدى أشهر أطروحاته حول فيورباخ، جعلت الفيلسوف المجري موضع لعنة الماركسيين المتشددين، ما أجبره في 1945 على نقد ذاته بشكل حاد والامتناع لفترة عن الأعمال النظرية.
حياة تراجعات متواصلة
ويمكننا أن نقول إن حياة لوكاتش كلها كانت سلسلة من التراجعات. وذلك لأن هذا المفكر تمزق دائماً بين ما كان يراه صواباً من الناحية النظرية الفكرية البحتة، وما كان يراه ضرورة تكتيكية من الناحية العملية. وهنا يجب ألا ننسى أن لوكاتش، أكثر مما كان تلميذاً لماركس، كان تلميذاً لفلاسفة تجريبيين عمليين من طراز جورج سيميل وماكس فيبر وإميل لامسك. وإن كتاباته الأولى لم تكن ماركسية بأي حال من الأحوال، لا سيما منها كتاباه "الروح والأشكال" و"نظرية الرواية" الذي نتحدث عنه هنا.
في 1932 حين بدأ الخطر النازي يتهدد المجر، فر لوكاتش إلى موسكو حيث عاش ردحاً من الزمن، عاد بعده مع نهاية الحرب ليصبح أستاذاً للفلسفة ويُنتخب نائباً في مجلس الشعب، وكانت تلك هي المرحلة التي قام فيها، من جديد، بنقد ذاته بشكل جعل السلطة الستالينية الحاكمة ترضى عنه وتعامله بوصفه الفيلسوف الرسمي للدولة. أما هو فقد صمت لفترة طويلة، تاركاً للمستقبل أمر التعامل مع رغباته التجديدية بالنسبة إلى الفكر الماركسي، وذلك خوفاً من أن يُتهم بالتحريفية من جديد، بخاصة عبر تركيزه على دور الذات والوعي الفردي، وهو دور لم يفته - على أي حال - أن يعبر عنه بخاصة في كتبه النظرية العديدة حول الرواية، وهي الكتب التي أثّرت كثيراً في بعض أهم مؤرخي الأدب في القرن العشرين وبخاصة لوسيان غولدمان، تماماً كما إن كتاباته الفلسفية المبكرة أثّرت في فلاسفة من أمثال كارل مانهايم وكارل كورش وحتى مارتن هايديغر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العودة الأخيرة مع نقد ذاتي جديد
صمت لوكاتش لم يطل على أي حال. وكذلك تراجعه التالي، فالواقع أنه حين قامت انتفاضة 1956 في المجر وتشكلت حكومة إيمري ناجي الثورية ضد الستالينيين، أحس لوكاتش أن زمنه قد حان أخيراً، فإذا به ينضم إلى المنتفضين ويعين وزيراً للثقافة. بيد أن الانتفاضة سرعان ما هُزمت، ما اضطر لوكاتش للهرب إلى رومانيا (ويقال إلى يوغوسلافيا) حيث بقي حتى العام التالي. بعد ذلك عاد إلى المجر، إثر نقد ذاتي جديد. وهذه المرة انصرف فعلاً إلى أعماله الفكرية فكتب مجلدين في علم الجمال، ونقح بعض كتبه القديمة وبخاصة كتبه حول تاريخ فن الرواية و"نظرية الرواية" وحول علم اجتماع الرواية. وهو حيث توفي عند بدايات شباط (فبراير) 1971 كان في قمة مجده... ولكن في قمة يأسه أيضاً.