بين رفع درجة الاستعدادات القصوى في المستشفيات، وإعلان الاستنفار في الشواطئ والمتنزهات والشوارع الجانبية قبل الرئيسة، وتشمير الأكمام استعداداً لـ"طبق فتّة" مُلغم بلحوم طال الاشتياق إليها معلنة تحدي غياب "المأمأة" في شوارع المدينة، تدور إجراءات واستعدادات الاحتفاء والاحتفال بكثير من الإنهاك وبعض من الأمل في بضعة أيام منزوعة القلق، أو على الأقل بتركيز مخفَّف يسمح بتنفس هواء بهجة العيد.
بهجة عيد مختلفة ومختلّة
بهجة العيد صارت مختلفة وربما مختلّة. فأن تشتري فستاناً لابنتك ومعه كمّامة تليق بـ"الكرانيش"، وبنطلوناً لابنك مزوّداً بجيب يتّسع لزجاجة المطهّر، وتحرص على أن تكون نعول الأحذية الجديدة من مادة تتحمّل رشّ الكحول، فهذا اختلاف في البهجة. وأن يكاد يقتصر الوجود "الخرفاني" في الشوارع والميادين على تلك الخراف القطنية ذات قرون الكاوتشوك والعيون البلاستيكية ولا "يمئمئ" إلّا قليلاً وتحت ضغط الأصابع على منطقة البطن لتنطلق الزمارة "ماء ماء ماء"، فهذا خلل في قواعد العيد وأعرافه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القواعد والأعراف وما جرت عليه عادة احتفال المصريين بعيد الأضحى خضعت جميعها لإملاءات كورونا. وإذا كانت السنوات القليلة الماضية شهدت جولات كرّ وفرّ بين قوانين تجرّم الذبح في الشوارع ومداخل العمارات السكنية وغالبية تصرّ عليه وأقلية تحذّر من مغباته الصحية، فإنّ هذا العام يشهد قدراً أكبر من السرية بين المخطِّطين للذبح الممنوع وتضييقاً أعمق من قبل الجهات المختصة بتطبيق القوانين. الدولة تلوّح بغرامة خمسة آلاف جنيه (حوالى 310 دولارات) ومحضر تلوّث بيئي. والمُصرين على الذبح الممنوع يدبّرون لمخطَّطهم في مداخل عمارات في شوارع جانبية وأسطح بيوت في مناطق شعبية.
تدابير مختلفة
بقية الشعب يتّخذ تدابير مختلفة من أجل العيد المختلف. ولأن الحج هذا العام محدود مقتصر على المقيمين والمواطنين فقط في السعودية لتفادي مزيد من تفشّي الوباء، فقد سرت صرعة جديدة بين كثيرين في مصر أعلنوا نية الحج الافتراضي على فيسبوك كنوع من التعبير عن الرغبة الشديدة في أداء مناسكه والتبرّك، بقيمته لا سيما الجزء المتعلّق بالدعاء يوم عرفة.
وعرف المصريون هذا العام الطريق إلى الاحتفال الجزئي بالعيد بعدما اعتادوا الحظر الجزئي والإغلاق الجزئي والتعليم "أون لاين" الجزئي وغيرها من ثقافة التجزئة. أسر مصرية عدّة قررت الاكتفاء بجزء من "الخروف" على مائدة العيد وذلك عبر شراء كيلوغرام أو اثنين من القصاب أو من المنافذ المتحركة التي توفرها الدولة بأسعار في متناول الأسرة المتوسطة وما دونها.
إرشادات العيد الصحية
ومن دون تجميل الحقائق أو تزيين الوقائع، نزلت تحذيرات منظمة الصحة العالمية على المحتفلين كالصاعقة، لا سيما أولئك الذين اعتبروا رفع الحظر وإنهاء الإغلاق إشهاراً بانتهاء الفيروس. فالمنظمة أصدرت إرشادات معنونة بـ"الممارسات المأمونة أثناء عيد الأضحى في سياق جائحة مرض كوفيد-19". تضمّنت الإرشادات تحذيرات شديدة اللهجة من احتمال انتقال المرض "نتيجة التفاعل بين الحيوان والإنسان"، ما سلّط الضوء على التعامل مع الأضاحي. وأشارت إلى رصد "زيادة عدد حالات الإصابة بالفيروس نتيجة أنشطة رمضان، لا سيما أثناء الزيارات العائلية وأداء الصلاة بشكل جماعي والتجمّعات" وهو ما يشبه كثيراً أنشطة عيد الأضحى، فالزيارات العائلية وأداء الصلاة بشكل جماعي والتجمّعات. المنظمة نصحت الدول بـ"اتّخاذ قرارات مستنيرة في شأن تنظيم التجمّعات ذات الطابع الاجتماعي والديني". والحكومة المصرية قرّرت قبل أيام أن تتّبع صلاة عيد الأضحى القواعد ذاتها التي اتُّبعت في صلاة عيد الفطر الماضي الذي حلّ كذلك في ظلّ كورونا المستجدّ. وقال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إنه تقرّر نقل الصلاة من أحد المساجد مع التكبيرات وخطبة العيد، ما أحزن كثيرين من المتشوّقين لصلاة العيد في الساحات العامة وباحات المساجد. جانب من هؤلاء يرفع شعار "قل لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا"، وهو الجانب الذي يخطِّط ويدبّر في الخفاء لإقامة صلاة العيد في مكان ما، يضمن أن تكون جماعة ولكن بعيداً من أعين "الحكومة". جانب آخر يؤمن يرجّح كفّة "إعقلها وتوكل" وأيقن أن التعقّل هنا يعني التزام قرار الإلغاء وتوسيع هامش الوقاية من البلاء.
بلاء الوباء
بلاء الوباء في العيد دفع البعض إلى التعامل مع توجيهات منظمة الصحة العالمية بخليط من ردود الفعل. فبين جدّ وهزل، يتداول مصريون تعليمات المنظمة حول تبادل التحية بصورتين متضادتين. الأولى تحمل النص التحذيري ومفاده "استخدام التحيات الجائزة ثقافياً ودينياً التي لا تنطوي على المخالطة الجسدية مثل التلويح أو الإيماء أو وضع اليد على القلب جائز صحياً". والثانية تحوي التلاحم الجسدي والتلاصق الجغرافي إذ ليس هناك موطئ لقدم أو مجال للحديث عن المتر الموصى به أممياً لضمان التباعد.
وبعد الكثير من الشدّ والجذب، وتوقّع الإغلاق وتمني الإبقاء على الفتح ولو بنسبة إشغال لا تتعدّى الـ25 في المئة المنصوص عليها في قرار مجلس الوزراء، استعدّ عدد من دور السينما في مصر لموسم أفلام العيد الذي تقلّص وانكمش ليقتصر على فيلمَيْن رئيسَيْن هما "زنزانة 7" و"الغسالة". وشركة إنتاج الأخير زفّت بشرى خروج الفيلم إلى نور العيد بعبارة "دارت الغسالة. ودورتها في عيد الأضحى في جميع دور السينما".
دورة "الغسالة"
دورة "الغسالة" بسعة 25 في المئة فقط قلبت مواجع دور العرض، وهي أحد أبرز الخاسرين بسبب كورونا. وعلى الرغم من أن القرارات الرسمية بعودة الحياة الطبيعية "الجديدة" نصّت على فتح أبواب دور العرض، إلّا أنّ الـ25 في المئة تعني تقليصاً في الأرباح، وأن مخاوف الغالبية من الوجود في الأماكن المغلقة أو الرغبة في تجنّب ارتداء الكمّامات الكاتمة للأنفاس تجعل نجاح موسم العيد السينمائي رمزياً. بمعنى آخر، ينظر السنيمائيون إلى أيام العيد باعتبارها بشرى خير لعلها "تكسر نحس" الفيروس.
و"نحس الفيروس" يتضامن مع الطقس في العيد ليحدّا من تحرّكات المحتفلين طيلة ساعات النهار. وعلى الرغم من أن هيئة الأرصاد الجوية تسمّيه "شمساً مشرقة ساطعة"، إلّا أن رصد درجات الحرارة وقوة أشعة الشمس ونسبة الرطوبة تشير جميعها إلى "ضربة شمس مؤكدة" في حال عدم الالتزام بقواعد الترطيب والبقاء بعيداً من الحرارة القائظة والرطوبة الخانقة.
رطوبة خانقة
الرطوبة الخانقة يخفّف من حدتها هواء الإسكندرية وبقية المدن الساحلية، وتلطّف من وطأتها التجمّعات الأسرية في القرى والمحافظات التي يعود إليها النازحون منها في عيد الأضحى كعادة كل عام محمَّلين بالهدايا، كلٌّ بحسب مقدرته. العودة غالبيتها تكون بالقطارات التي تتكثّف رحلاتها وتزيد أعدادها في مثل هذا الوقت من كل عام. لكن هذا العام يحمل هدية من نوع خاص، ألا وهي دخول 39 قطاراً جديداً الخدمة في سويعات ما قبل العيد. فقبل أيام قليلة، وفي أثناء افتتاح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمنطقة الصناعية في منطقة "الروبيكي" التابعة لمدينة بدر، أعلن وزير النقل اللواء كامل الوزير أن هناك 39 قطاراً جديداً جاهزة لدخول الخدمة. فوجّه السيسي بدخولها الخدمة قبل العيد ليستفيد المصريون المسافرون منها. وحين قال الوزير "نحن جاهزون والناس منتظرة الهدية"، سارع الرئيس إلى الردّ بقوله: "دي مش هدية ولا حاجة، كله بالحساب يا حبيبي". (هذه ليست هدية)، مضيفاً "ما فيش هدايا. شوفنا الهدايا عملت إيه في مصر!". ويقصد الرئيس أن زمن الخدمات المجانية أو المدعمة قد انتهى، ويبقى المعنى في بطن الشاعر والأثر في جيب المواطن، سواء قبل العيد أو بعده أو أثناءه.
يشار إلى أن أقوالاً كثيرة تتردّد حول نية الحكومة رفع أسعار تذاكر القطارات. وحين سُئل وزير النقل كامل الوزير عن ذلك قبل أسبوعين، قال: "نخلّي الناس تعيّد الأول".
ولأن عيد بلا سياسة لا يستوي، فقد تسلّلت إلى شوارع المدن الكبرى لافتات عدّة تحمل أسماء وصور المرشحين لمجلس الشيوخ، الذي فوجئ المصريون بقرار عودته (وكان يحمل اسم مجلس الشورى في عهد الرئيس الراحل مبارك). وحيث أن كثيرين لم يلتفتوا إلى المجلس وشيوخه بعد، فقد بذل المرشحون وأحزابهم جهداً إضافياً للفت الانتباه، فاللافتات تحمل مع التعريف بالمرشح تهنئة ضخمة بالعيد السعيد.