على الرغم من الانفجارات المتناثرة في المسرح السياسي الأميركي خلال الأشهر الماضية، فإن جلسة الاستماع التي أجرتها لجنة مكافحة الاحتكار في مجلس النواب الأميركي لعمالقة شركات التكنولوجيا حملت دلالات كبيرة، حيث كشفت الجلسة أن شركات أمازون وآبل وفيسبوك وغوغل التي تصل قيمتها السوقية إلى نحو 5 تريليونات دولار، فقدت الدعم من الحزبين السياسيين الجمهوري والديمقراطي بينما تواجه في الوقت نفسه عدداً من التحقيقات حول العالم. فما الذي كشفته تحقيقات الكونغرس المستمرة منذ عام كامل وكيف كانت أجوبة الرؤساء التنفيذيين لأكبر الشركات وأكثرها نفوذاً وقوة في مواجهة سلطة تشريعية متحفزة تمتلك ملايين الوثائق؟ وما مصير هذه الشركات العملاقة حال ثبوت قيامها بممارسات احتكارية كما استنتج البعض؟
اتهامات بسحق المنافسين
تعرض قادة شركات أمازون وآبل وفيسبوك وغوغل لهجوم سياسي عنيف، بعدما واجههم الأعضاء الديمقراطيون والجمهوريون في لجنة مكافحة الاحتكار في مجلس النواب بسيل من الأسئلة حول مدى استغلالهم قوتهم ونفوذهم في السوق لسحق المنافسين وجمع البيانات وجذب مزيد من العملاء وتحقيق أرباح عالية عبر وسائل غير تنافسية.
الاستجواب غير المسبوق والذي استمر نحو ست ساعات، تسلح فيه المشرعون في اللجنة بملايين الوثائق ومئات الساعات من المقابلات، بل ورسائل خاصة للرؤساء التنفيذيين في وادي السيليكون، تشير إلى أن بعض شركات قطاع التكنولوجيا أصبحت كبيرة وقوية للغاية، ما يهدد المنافسين والمستهلكين، وحتى الديمقراطية نفسها في بعض الحالات.
وقال ديفيد سيسلين رئيس اللجنة في تحد واضح لقادة الشركات العملاقة "لم ينحن مؤسسو الولايات المتحدة أمام أحد، ولن نفعل الشيء ذاته الآن أمام اقتصاد الديجيتال وخدمات الأونلاين".
دفاع العمالقة
وكان سيسلين قد بدأ تحقيق الكونغرس العام الماضي مع أمازون وآبل وفيسبوك وغوغل بهدف استكشاف ما إذا كانت الشركات الأربع الأكثر تأثيراً في صناعة التكنولوجيا، قد وصلت إلى وضعها الحالي عبر وسائل غير تنافسية. ورداً على ذلك، اتخذ الرؤساء التنفيذيون الأربعة - جيف بيزوس من أمازون، وتيم كوك من آبل، ومارك زوكربيرغ من فيسبوك وسوندار بيشاي من غوغل، منصة الشهود عبر مشاركات بالفيديو على شبكة الإنترنت للدفاع بشدة عن أعمالهم كقصص نجاح تضخمت ثرواتها من خلال الكفاءة والابتكار ودعم العملاء المتواصل وليس من أي طريق آخر.
لكن أعضاء لجنة مكافحة الاحتكار قدموا مراراً وتكراراً رؤية مختلفة تحمل تصوراً واضحاً مفاده أن التقدم الهائل في وادي السليكون في التجارة وإليكترونيات تتبع المستهلكين والاتصالات ومجموعة واسعة من خدمات الأونلاين عبر الإنترنت، تمت بتكلفة باهظة تحملها المستهلكون الذين استخدموا هذه الأدوات. كما تسببت في خسارة الشركات الساعية للتنافس مع عمالقة التكنولوجيا.
خطأ استحواذ إنستغرام
وكان لرئيس شركة فيسبوك مارك زوكربيرغ نصيباً وافراً من الانتقادات التي وجهها الديمقراطيون مراراً عبر التذكير برسائله الإلكترونية السابقة، حيث طرح النائب جيرولد نادلر رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب، رسالة من عام 2012 قال فيها زوكربيرغ إنه سعى إلى شراء شركة إنستغرام، والذي كان في ذلك الوقت تطبيقاً منافساً يعتمد على مشاركة المستخدمين للصور، خوفاً من أن يلحق ضرراً بالغاً بفيسبوك.
كما أشار النائب الديمقراطي جو نيغوز إلى اتصالات أخرى وصفت إستراتيجية الاستحواذ على إنستغرام بأنها "استيلاء على الأرض"، وهو ما اعتبره نادلر عملية دمج واستحواذ تنتهك قوانين مكافحة الاحتكار على الرغم من تأكيدات زوكربيرغ أن فيسبوك تتنافس بعدالة سعياً لأن تكون الأفضل.
بيزوس ضلل اللجنة
أما شركة أمازون، فقد واجهت تدقيقاً متفحصاً بشأن ادعاءات تقول إن الشركة ربما ضللت اللجنة، بعدما أخبر رئيسها نواب الكونغرس سابقاً، أنه لم يستخدم بيانات البائعين الآخرين على منصته، من أجل زيادة مبيعات منتجاته الخاصة، غير أن النائبة الديمقراطية براميلا جايابال عرضت تقارير أخرى تشير إلى عكس ذلك تماماً. ما دفع بيزوس إلى الاعتراف بالخطأ، في المرة الأولى التي يدلي فيها، وهو أغنى رجل في العالم بثروة تبلغ 171.6 مليار دولار، بشهادته أمام الكونغرس.
إحباط الكونغرس
وشهدت جلسة الاستماع سلسلة من الاشتباكات العنيفة بين أعضاء اللجنة وجميع المديرين التنفيذيين الأربعة، ما كشف عن إحباطات واسعة للأعضاء الجمهوريين والديمقراطيين من الطريقة التي عَرّضَت بها هذه الشركات خصوصية المستخدمين للخطر، ومن سياسات المحتوى على الإنترنت ومن كيفية الإضرار بالمنافسين، بما في ذلك الشركات الصغيرة التي أبلغت المشرعين أنها لم يعد لديها أمل في التنافس مع عمالقة التكنولوجيا.
وفي حالات عدة، اضطر المشرعون إلى قطع حديث المديرين التنفيذيين الأربعة عندما عرضوا إجابات غامضة أو طويلة، في محاولة لتضييق الخناق عليهم ومساءلتهم بشأن الأدلة التي جمعها المحققون.
غير أن الجمهوريين استخدموا جزءاً من وقتهم خلال جلسة الاستماع في مهاجمة بعض شركات التكنولوجيا لانخراطها في فرض رقابة سياسية ضد المحافظين، وهي تهمة تنفيها الشركات بشدة.
قصص النجاح
بذل كل من المديرين التنفيذيين لشركات التكنولوجيا الأربع جهوداً كبيرة للتأكيد على حجم مساهمتهم في الاقتصاد الأميركي، حيث وصفت أمازون نفسها بأنها واحدة من أشهر العلامات التجارية الأكثر شعبية بالنسبة إلى المستهلكين، حيث يمكن للمستهلكين الحصول على سلعهم بسرعة وبتكلفة زهيدة، بينما قالت شركة آبل إنها وفرت تطبيقات متوائمة مع البيئة لجماهير عريضة، ووفرت هواتف متطورة عالية القيمة يصعب مضاهاتها.
أما شركة فيسبوك فقالت إنها وقفت إلى جانب حرية التعبير ضد موجة متزايدة من الرقابة حول العالم، وأشارت إلى منافسين جدد من بينهم تيك توك، في حين اعتبرت شركة غوغل أن أدواتها أتاحت للناس العثور على المعلومات ومكنت الأنشطة التجارية في جميع أنحاء العالم من النمو.
ولكن سرعان ما سعى الديمقراطيون في لجنة مكافحة الاحتكار بمجلس النواب إلى إبطال قصة نجاح عمالقة التكنولوجيا الأربعة.
مشكلة غوغل
واتهم بعض المشرعين غوغل على وجه التحديد باستخدام محرك البحث الذائع الصيت الخاص بها، لوضع منافسيها في وضع غير تفضيلي. واتهم النائب ديفيد سيسلين غوغل بسرقة محتوى من مواقع أخرى لتحقيق مصالح لها، مستشهداً بممارستها المتمثلة في اختيار معلومات بعينها وعرضها في الجزء العلوي من نتائج بحث المستخدمين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما تؤكد غوغل أن منهجها في استخدام محرك البحث، يساعد الأشخاص في العثور على الإجابات التي يحتاجونها أو المنتجات التي يبحثون عنها، شكّك سيسلين في دوافع الشركة، مؤكداً أنها سرقت تعليقات وتقييمات رواد المطاعم من موقع Yelp وهدّدت كذلك بإزالة موقع Yelp من محرك البحث الخاص بها عندما تقدم بشكوى ضد ممارستها. كما اتهم سيسلين غوغل بمراقبة حركة التدفقات على شبكة الإنترنت بهدف تحديد تهديدات المنافسين لها، مشيراً إلى وثائق تظهر أن غوغل تحوّلت مع الوقت من باب دوار يبحث في كل زوايا الإنترنت إلى حديقة ذات أسوار تبقي المستخدمين تحت مرمى بصرها.
في المقابل، اعترض سوندار بيشاي الرئيس التنفيذي لغوغل على وصف شركته بأنها سرقت محتوى ووضعت منافسيها في وضع غير تفضيلي، قائلاً إن شركته تدعم 1.4 مليون شركة صغيرة بأكثر من 385 مليار دولار تضخها في النشاط الاقتصادي الأساسي لهذه الشركات التي بدأت تنشط وتزدهر، ولا سيما خلال وباء كورونا.
نيران أقل تجاه آبل
وعلى خلاف نظرائه، تلقى الرئيس التنفيذي لشركة آبل وابلاً أقل من النيران والأسئلة، لكن العديد من المشرعين طرحوا استجوابات حول الطريقة التي تتعامل بها الشركة مع متجر التطبيقات الخاص بها، والشركات الأخرى التي طوّرت منتجات أو خدمات منافسة تقدمها آبل أيضاً.
وأثار نواب لجنة مكافحة الاحتكار مراراً سياسة الشركة في الحصول على عمولة تصل إلى 30 في المئة على المبيعات والاشتراكات المتضمنة داخل التطبيق، وهي الرسوم التي أثارت غضب عدد من الشركات البارزة بما في ذلك Spotify، التي اعتبرت أن لا خيار لديها سوى التنازل عن جزء كبير من إيراداتها لصالح شركة آبل. في حين يؤكد كوك أن الشركة لم تسعَ أبداً إلى زيادة نسبتها وأنها تستخدم هذه الرسوم لتمويل النظام البيئي الكامل للتطبيق.
لكن المشرعين أصدروا لاحقاً وثيقة تُظهر أن أحد المديرين التنفيذيين لشركة آبل ويدعى إيدي كيو اقترح عام 2011 مطالبة المطوّرين بدفع مزيد من الأموال، غير أن كوك شدد على أن آبل ليست لديها رغبة في إلحاق أي ضرر بالمطورين.
خطر التفكيك والتنظيم
وفي ختام الاستجواب، اعتبر سيسلين رئيس لجنة مكافحة الاحتكار أن الشركات الأربع تتمتع بقوة احتكارية، وبعضها يحتاج إلى التفكيك، داعياً إلى ضرورة تنظيم جميع الشركات، وقارن الرؤساء التنفيذيين الأربعة الذين شهدوا بمن وصفهم بأباطرة العصر الذهبي، لأن سيطرتهم على السوق تتيح لهم القيام بكل ما يلزم لسحق الشركات المستقلة وتوسيع قوتهم.
وأضاف أن الشركات تنتهك بوضوح قوانين مكافحة الاحتكار، حيث أكدت جلسة الاستماع أدلة جمعتها اللجنة في تحقيقها الذي استمر مدة عام.
ومن المتوقع أن يصدر سيسلين تقريراً في أغسطس (آب) المقبل لتحديد هذه القضية ومن ثم تحديث قواعد المنافسة الفيدرالية التي من شأنها أن تمنح المنظمين مزيداً من السلطة للتحقيق في هذا الملف وفرض عقوبات على شركات التكنولوجيا المخالفة. ومن المرجح أيضاً أن توفر نتائج التحقيق الإجراءات الأولية التي يمكن أن يتخذها الكونغرس إذا كان يهدف إلى كبح جماح شركات التكنولوجيا العملاقة.
دعاوى قضائية
ومن المتوقع أن ترفع وزارة العدل الأميركية دعاوى قضائية ضد احتكار شركة غوغل مع نهاية الصيف الحالي، وفقاً لتقارير صحافية أميركية، كما يتوقع أن تكون هناك قضايا ضد شركات أخرى في وقت قريب.
ولقوانين مكافحة الاحتكار تاريخ طويل في الولايات المتحدة، حيث طبّقت على عدد من الشركات في قطاعات عديدة كالنفط والسكك الحديدية والتمويل، لكن هذه القوانين لم تطبق على شركات التكنولوجيا بسبب نقص التشريعات المنظمة للابتكارات التكنولوجية في القرن الماضي.