تجارة الرقيق هي الموضوع الذي تتناوله الروائية الغوادولوبية ماريز كوندي في روايتها "أنا تيتوبا" الصادرة حديثاً بتعريب محمّد آيت حنا (دار الآداب). وهي تجارة ازدهرت في الغرب الأميركي، خلال القرون الوسطى، وترتّبت عليها خسائر إنسانية جمّة، حفرت عميقاً في تاريخ البشرية، وتمظهرت في مجموعة من الانتهاكات الخطيرة التي مارسها الرجل الأبيض على ذوي البشرة السوداء، ممّن اصطُلِح على تسميتهم بـ "العبيد"، ومن هذا المصطلح اشتُقّت كلمة "العبودية". وهي انتهاكات تتوزّع على: الشراء، البيع، الاغتصاب، القتل، الاستعباد، العنصرية، الظلم، الطرد، التعذيب، التعنيف، وسواها من المفردات التي تنتمي إلى الحقل المعجمي للعبودية.
في روايتها، تتناول كوندي تجارة الرقيق، في نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، بين جزيرة باربادوس، إحدى جزر الأنتيل الصغرى، ومدينة بوسطن الأميركية وضواحيها، وما يحفّ بهذه التجارة من ممارسات عنصرية، تنتهك إنسانية الإنسان، وتختصر البشر في طبقتي السادة البيض والعبيد السود، فيشكّل اللون معياراً للتمييز بين الناس وتحديد مرتبتهم الاجتماعية. وهي تفعل ذلك من خلال رصد حياة "تيتوبا"، الشخصية المحورية في الرواية، والعلاقات التي انخرطت فيها، طوعاً أو كرهاً، والمخاض العسير الذي عاشته، وآليات الدفاع التي لجأت إليها، في فضاءٍ روائي يجمع بين الواقعية والواقعية السحرية. ومن خلال هذا الرصد، نقف على الصراع التاريخي بين الزنوج ممّن اصطلح على تسميتهم بـ"العبيد"، من جهة، والبيض ممّن احتكروا هوية "السّادة" وراحوا يمارسون ساديّتهم، من جهة ثانية، في لحظة تاريخية معيّنة. وهو صراعٌ ما يزال مستمراًّ حتى اليوم، بأشكالٍ وتمظهراتٍ مختلفة، تتعدّى معيار اللون للتمييز بين طرفيه إلى معايير أخرى.
وقائع قاسية
في الشق الواقعي من الفضاء الروائي، ثمّة وقائع قاسية تقع على بطلة الرواية، منذ ما قبل مجيئها إلى العالم حتى ما بعد رحيلها عنه. ففي باربادوس، يقومُ بحّار إنكليزي باغتصاب أمّها أبِنا على متن سفينة متوجّهة إلى الجزيرة، وبيعها في ميناء بريدجتاون من دارنيل ديفيز، المزارع الثري الذي يُلحقها في خدمة أسرته، حتى إذا ما اكتشف حملها يصبّ جام غضبه عليها ويعاقبها بإعطائها إلى ياو زد، أحد عبيده. وحين تضع أبِنا طفلتها، يطلق عليها الأخير اسم "تيتوبا"، ويُعنى بالطفلة والأم، في تعبير واضح عن التضامن بين أبناء الجلدة الواحدة. غير أنّ قيام الأخيرة بطعن السيّد الأبيض لدى محاولته اغتصابها، يُشكّل نقطة تحوّل في مجرى الأحداث تكون لها نتائجها المدمّرة على الأسرة الوليدة؛ فيتم إعدام الأم، وانتحار الأب البديل، وطرد الطفلة تيتوبا. وهنا، يتدخّل التضامن "العبيدي"، للمرّة الثانية، فتقوم مان يايا، المرأة المخبولة التي قضى رفيقها وولداها تحت تعذيب الرجل الأبيض، باحتضانها ورعايتها وتزويدها بمهاراتها الخارقة في استحضار الأرواح وعلاج المرضى والتناغم مع عناصر الطبيعة، حتى إذا ما اشتدّ عودها، وقضت المربّية نحبها، تيمّم تيتوبا شطر نهر أورموند المجاور، وتُشيّد كوخها، وتُسوّر حديقتها، وتُربّي الدواجن والحيوانات. ويأتي لقاؤها بالشاب جون الهندي، المملوك من سوزانا إندكوت، السيدة الغنية المقيمة في حي كارليل باي من مدينة بريدجتاون، ليشكّل انعطافة أخرى في مسار الأحداث، فتنخرط معه في علاقة حب، وتنتقل للإقامة معه في بيت السيّدة الجديدة، وتبلغ العلاقة بينهما شأواً متقدّماً، تتحمّل فيه تيتوبا إذلال السيّدة كرمى لحبيبها، وحين تقوم الأخيرة ببيعها مع رفيقها من القسّ المتعصّب صامويل باريس القادم من بوسطن، انتقاماً ممّا اعتبرته مسؤولية تيتوبا عن مرضها، وهو ما يخرج عن سلطتها لأنّ الأخيرة ليست عبدتها في الأساس، لا تنبس تيتوبا ببنت شفة، وتختار مصيرها المشترك مع جون، مؤثرةً حبّها على حريّتها، الأمر الذي ستدفع ثمنه لاحقاً.
في بوسطن وضواحيها، يكون على تيتوبا أن تعيش وقائع أخرى لا تقلّ قساوةً عن تلك التي عاشتها في جزيرة باربادوس، تتمظهر في جلافة القسّ وعنصريّته، إعدام امرأة عجوز سوداء بتهمة ممارسة السحر، تلفيق التهمة نفسها لها بالتواطؤ بين من أحسنت إليهن من النساء ومن يتربّصن بها الدوائر منهن بتشجيع من الرجال البيض، التنكيل بها من القسّ الذي يملكها وثلاثة شمامسة آخرين، تخلّي حبيبها عنها، القبض عليها ومحاكمتها وسجنها حتى يُقيَّض لها من يحرّرها من الأسر. وهنا، يتدخّل القدر، مرّة جديدة، بشكل ما يُسمّى بتعاطف الضحايا والمضطهدين، فبنيامين التاجر اليهودي الأعرج، الأعوج الذي يحفظ عن ظهر قلب ما تعرّض له بنو قومه من اضطهاد، يتعاطف مع تيبوتا، ويحرّرها من سجنها مقابل اهتمامها بأسرته وأولاده التسعة، وتنشأ بينهما علاقة حميمة تتمظهر في ممارستهما الجنس دورياًّ، حتى إذا ما قام العنصريّون البيض بإحراق منزله وأولاده التسعة، يزمع مغادرة قرية سالم القريبة من بوسطن إلى رودس، ويقرّر منح تيبوتا حريّتها وتمكينها من العودة إلى مسقط رأسها، فتعبّر عن رغبتها في البقاء معه مؤثرةً للمرّة الثانية الحب على الحرية، غير أنّ إصراره على قراره يضعها أمام الإبحار إلى باربادوس حيث تنتظرها وقائع أقسى ممّا مرَّ بها.
في باربادوس، تتعرّض تيتوبا لخيانة أبناء جلدتها من العبيد الآبقين، فيقوم كرستوفر زعيمهم بالتودّد إليها لإقامة علاقة معها، ثمّ يسيء معاملتها، فتعود إلى كوخها الذي غادرته ذات يوم وتقوم بترميمه والإقامة فيه، حتى إذا ما تعرّفت إلى الفتى المتمرّد إيفنجين، وارتبطت به في علاقة ترجّحت فيها بين دوري الأم والحبيبة، ودعمته في حركة التمرّد التي يزمع القيام بها ضدّ الأسياد البيض، يشي كريستوفر العبد الآبق بالمتمرّدين، فيستعين المشرفون البيض بالمستعمرين الانكليز ويقومون بالقبض عليهم، بمن فيهم تيتوبا، وإعدامهم جميعاً. فتنتهي حياة تيبوتا في الواقع لتبدأ حياة جديدة مختلفة فيما بعد الواقع.
واقعية سحرية
في الشق الواقعي السحري من الفضاء الروائي، تُشكّل الدروس التي تلقّتها تيتوبا، في استحضار الأرواح ومعالجة المرضى والتناغم مع عناصر الطبيعة، من مان يايا في بارابادوس، ومن صديقتها جود وايت في بوسطن، سلاحاً تواجه به الوقائع القاسية، وتحاول التخفيف من قساوة الواقع. لذلك، تتّخذ من قدراتها الخارقة آليات دفاع تستخدمها للذود عن نفسها وبني قومها؛ وتتمظهر هذه الآليات في استحضار روحَيِ مربّيتها الساحرة يايا وأمّها أبِنا واستشارتهما والاستقواء بهما كلّما أُوصِدَت دونها السبل، وفي معالجة المرضى من ذوي الأمراض المستعصية، وفي استدعاء الريح لتحريك السفينة المبحرة إلى مسقط رأسها تحت طائلة تهديد القبطان برميها في البحر.
على أنّ هذه القدرات الخارقة التي تتمتّع بها لم تحل دون استعبادها وسجنها وإعدامها، فهي غالباً ما توظّفها للخير لا للشر عملاً بوصية معلّمتها، الأمر الذي تعبّر عنه بقولها: "إنّ المرأة التي نقلت إليّ علمها، علّمتني أن أداوي وأريح أكثر من أن أؤذي" (ص 118). وهي تمارس السحر بالمفهوم الإيجابي لا السلبي، ومع هذا، لم تنجُ من التنكيل بها واعتقالها وقتلها، في وسطٍ عنصري لا يقيم وزناً للكرامة الإنسانية. على أنّ قصّة تيبوتا الفعلية ستبدأ "حيث انتهت القصّة السابقة، ولن يكون لها نهاية"، على حدّ قولها (ص 287). ولذلك، تتردّد أغنيتها من أقصى الجزيرة إلى أقصاها، وتشكّل مصدر إلهامٍ لشعبها، ومهمازاً له على طريق الحرية. وهكذا، يأتي موتها ليمنح قضية شعبها الحياة، وتعيد بالموت توازناً مفقوداً في الحياة.
على هامش ظاهرة العبودية وتجارة الرقيق، تقوم كوندي بتفكيك ظواهر سلبية أخرى، تحفّ بها وتُسهم فيها، فتفكّك استخدام الدين لتعزيز العبودية، من خلال الدور السلبي لبعض الكهنة الذين يمارسون الإكراه في الدين ولا يتورّعون عن المشاركة في التحقيق والتعذيب، وتواطؤ السلطتين الدينية والعسكرية لتنفيذ الأيديولوجيا السّائدة، وممارسات المستعمِر في استغلال موارد الشعوب المستعمَرة الطبيعية والبشرية لتحقيق أطماعه، وسواها من الظواهر. وبذلك، تُسهم في تحرير ضحايا العبودية من الظلم التاريخي اللاحق بهم، بواسطة الرواية، ولو بعد فوات الأوان. وهذا ما يجعل من "أنا تيتوبا" روايةً جديرةً بالقراءة، ومن ماريز كوندي روائية قمينةً بالمتابعة.