بعد أكثر من شهرين على رفع الحجر الذي عاشته باريس نتيجة وباء كوفيد 19 لا تزال المدينة تبدو مقفرة وخالية من بهجتها الصيفية المعهودة.
المقاهي والمطاعم التي أُجيز لها نشر طاولاتها على الأرصفة للتعويض عن الخسائر التي لحقت بها أثناء الحجر الذي أجبرها على الإغلاق تجد بالكاد من يشغل مقاعدها المستحدثة.
بعضها اضطر إلى تعديل دوامه وإغلاق أبوابه أبكر من المعتاد بسبب غياب الرواد، في حين أن مقاهي ومطاعم عدة لم تزاول أساساً نشاطها بعد رفع الحجر.
الفنادق مغلقة بغالبيتها في باريس، في حين أن نشاط الفنادق في المناطق الجبلية والساحلية يقتصر على30 في المئة من النشاط الاعتيادي والغالبية العظمى من الزبائن هم من الفرنسيين وعدد ضئيل من الأوروبيين مثل الألمان والإيطاليين.
الاعتداءات الإرهابية التي نفذها تنظيم داعش في فرنسا قبل نحو عامين كانت أضفت بصماتها على العاصمة الفرنسية من حيث التشدد في الإجراءات الأمنية وإجراءات التردد إلى الأماكن العامة.
وجاء وباء "كوفيد-19" ليترك بصماته الخاصة.
فترة الحجر التي امتدت لنحو شهرين تقريباً حملت كثيرين منهم على إعادة التفكير في نمط معيشته واستهلاكه. ما أدى إلى كثير من التغييرعلى صعيد الحياة اليومية.
العمل من المنزل بدلاً من التوجه إلى المكاتب بات نمطاً شائعاً في القطاعات التي تتيح ذلك. ما أدى إلى تقلص كبير في أعداد الوجبات الخارجية وفي استهلاك الملابس والكمالية عموماً.
وفي موازاة العمل من المنزل تقلص الإقبال على وسائل النقل العام من باصات وقطارات أنفاق، وبات العديد من الفرنسيين يستبدلونها في تنقلاتهم بالدرجات أو "trotinette" أي السكوتر الموزعة للإيجار في معظم الشوارع بأسعار زهيدة.
هذا التحول تسبب بخسائر طائلة واضطر السلطات الفرنسية إلى تخصيص مبلغ 7 مليارات يورو لحماية هذا القطاع.
وبما أن الملاهي الليلية لا تزال مغلقة بسبب صعوبة تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي فيها لجأ محبو السهر وخصوصاً الشباب الباريسي إلى بعض أحياء العاصمة وضفاف نهر السين لقضاء سهرات غالباً ما تتحول إلى مساحات اختلاط تستدعي تدخل الشرطة لتفريق المحتشدين.
وفي هذا القطاع أيضاً اضطرت الدولة إلى التدخل، فأعفت الملاهي من سداد إيجاراتها وفواتير الكهرباء والمياه المترتبة عليها، وقررت أن تأخذ على عاتقها نفقات أخرى بمستوى لا يتجاوز 15 ألف يورو شهرياً لكل ملهى.
وذكر الوزير المفوض للمؤسسات الصغرى والمتوسطة الحجم آلان غريسه أن الكلفة الإجمالية لهذه الإجراءات تقدر بنحو 50 مليون يورو موزعة على 1600 ملهى ليلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين أُلغيت النشاطات الثقافية التي لا تحصى في باريس والمناطق الفرنسية، سواء أكانت مهرجانات موسيقية أم غنائية أم مسرحية، فتحت دور السينما أبوابها منذ مدة تعمل بنحو25 في المئة من إمكاناتها.
ولعب الحجر دوراً بارزاً في حمل الفرنسيين على الابتعاد عن الإفراط والإسراف وغذى لدى العديدين منهم الميل للعودة إلى الذات والاهتمام بالصحة والتوجه إلى ممارسة الرياضة.
هذه التحولات "جوهرية" في رأي مدير أبحاث في المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية فريديريك كيك، الذي يرى أن التغيير ملح "لأن كل المؤشرات تحمل على القول إن نمط التطور الذي يسير عليه العالم ينطوي على مساوئ تفوق ايجابياته".
في غضون ذلك، تكاثرت في الآونة الأخيرة التحذيرات الرسمية في شأن احتمال حدوث موجة ثانية من وباء "كوفيد-19" في ضوء عدد الإصابات الجديدة المسجلة في مستشفيات البلاد والدراسات المتعلقة بمياه المجارير وتظهر ارتفاعاً في نسبة فيروس كورونا بما ينذر بارتفاع مرتقب بعدد الإصابات.
بالطبع، هذه التوقعات ليست من النوع الذي يبعث على الطمأنينة واستئناف الباريسيين وعموم الفرنسيين وتيرة حياتهم الاعتيادية. بل على العكس، فإن مجمل المؤشرات تحمل على الاعتقاد بأن ما يغلب عليهم هو الترقب والحيطة وبذل المستطاع للحفاظ على صحتهم ووظائفهم نظراً لما تتناقله وسائل الإعلام الفرنسية يومياً من أنباء عن خطط صرف جماعية في مؤسسات كبرى ومجالات عدة.
لكن المشكلة الكبرى التي أصابت فرنسا وخصوصاً عاصمتها التي تعد الوجهة السياحية الأولى في العالم هي توقف السياحة التي أمّنت في العام الماضي دخلاً بلغ 21.7 مليار يورو ووظائف لنحو 500 ألف شخص.
وفي ظل غياب السياح المعهودين يبدو برج إيفل ومتحف اللوفر اللذان يمثلان المعلمين السياحيين الأكثر رواجاً في العالم شبه عاريين وصامتين.