ما من كاتب روسي حورب خلال النصف الثاني من القرن العشرين بقدر ما حورب ميخائيل شولوخوف. وما من رواية سوفياتية هوجمت بوصفها "مسروقة" من كاتب آخر غير الذي ارتبطت به، بقدر ما حدث لرواية "الدون الهادئ" لشولوخوف. فمن آفيم إتكند إلى ألكسندر سولجتسين مروراً حتى ببوريس باسترناك، لم يتوان الكتّاب الروس المنشقون عن التنديد بشولوخوف، منكرين عليه موهبة الكتابة في حملات متواصلة بلغت أوجها يوم أعطته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب في عام 1965، وسمحت له سلطات بلاده بالسفر إلى ستوكهولم لتلقيها على عكس ما حدث لمواطنه باسترناك، الذي اضطر لرفض الجائزة.
ونعرف أن الحملات المتلاحقة على شولوخوف تركزت، بشكل خاص، حول روايته الكبرى "الدون الهادئ"، التي مع هذا لا تزال تُطبع وتُترجم على نطاق واسع حتى اليوم، كما لا تزال تُعتبر واحدة من أكبر الأعمال الأدبية التي أنتجت في بلاد السوفيات في القرن العشرين، العمل الذي جعل من المنطقي مقارنة شولوخوف بتولستوي. ولعل أغرب ما في الأمر أن "الدون الهادئ" تتقاسم المكانة دائماً مع "دكتور جيفاغو" لباسترناك، الذي يُفترض أنه الغريم الرئيس لشولوخوف.
والسؤال الأساس الذي كان يدور من حول شولوخوف يتعلق، تحديداً، بما إذا كان هو حقاً صاحب الرواية. وفي هذا الإطار هناك روايات وفرضيات عدة، يرى بعضها أن شولوخوف إنما سطا، في الحقيقة، على عمل كتبه غيره ونسبه إلى نفسه وسط تواطؤ السلطات الراغبة في أن يكون لديها أديب رسمي كبير. صحيح أن إتكند صاحب هذه النظرية، لم يتمكن من إقناع الكثيرين بنظريته، حتى اللحظة التي مات فيها شولوخوف عام 1984، حين كان الاتحاد لا يزال اتحاداً، والمجد الأدبي لا يزال مجداً أدبياً، لكنها وجدت دائماً من يتبناها.
50 صفحة من الأدب الإنساني
مهما يكن، من المؤكد أن ثمة عملاً آخر لميخائيل شولوخوف عرف كيف يعزز وبقوة من المكانة التي حازها في تاريخ الأدب في القرن العشرين، وهذا العمل هو بالتأكيد قصة "مصير إنسان" التي يقلّ عدد صفحاتها كثيراً عن عدد صفحات "الدون الهادئ" أو أي من أعمال شولوخوف الكبرى بما في ذلك "الأرض حرثناها" و"حاربوا في سبيل وطنهم". فقصة "مصير إنسان" التي حولها بوندارتشوك إلى فيلم في عام 1959، اعتُبرت من أكثر أفلام المرحلة السوفياتية نجاحاً على الإطلاق، لا يتجاوز عدد صفحاتها الخمسين صفحة، لكنها صفحات يمكنها وحدها أن تثبت قيمة شولوخوف الأدبية الكبرى، وتُعتبر على أي حال عملاً أدبياً كبيراً يتجاوز في قيمته الإنسانية أي عمل معاصر له.
في تلك الصفحات، رسم شولوخوف عقوداً عدة من عمر بلاده، خصوصاً من خلال المصاعب التي مرّت بها تلك البلاد بدءاً من الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية مروراً بالثورة الروسية والحرب الأهلية والمجاعة الكبرى، وكل هذا بمنأى عن السياسة المباشرة. فالسياسة الكبرى لم تعن شولوخوف في هذا النص إلا بقدر ما يمكنها أن تتلاعب بمصير بطله الفرد، الذي نبدأ معه، وهو جنديّ شاب يساق إلى مجازر الحرب العالمية الأولى وهو بالكاد قد خرج من سن المراهقة. وما نتبعه هنا هو مسار حياة هذا الفرد مروياً لنا، تبعاً لعادة الأدب الروسي، عن طريق شخص يعرف الكثير عن حياة ذلك الفرد، قبل أن يسلم الكاتب دفة الحديث إلى جنديّه نفسه ليروي لنا بقية الحكاية. والحكاية في حد ذاتها بسيطة وقد تكون خطّية تشبه ملايين القصص الأخرى. فالجندي ويدعى سوكولوف، يجد نفسه أسيراً في قبضة الألمان، إذ ينخرط في الحرب مخلّفاً وراءه أسرة صغيرة كوّنها من عروسه الشابة وطفلهما. وهو لبراعته في الشؤون الميكانيكية، يُلحق خلال الأسر كسائق لدى ضابط ألماني، ما يمكّنه ذات يوم من تسليم الضابط إلى وحدات الحرس الروسية المتقدمة قائماً بعمل وطني وفالتاً من الأسر في الوقت نفسه.
الحرب والعائلة المُبادة
لكن فرحته لا تتم، فهو إذ يعود إلى دياره فرحاً بقرب لقائه مع أسرته، يكتشف أن بيته ومزرعته أُحرقا وعائلته أُبيدت تماماً. لكنه بدلاً من أن ينهار يلتقي طفلاً يتيما فقد هو الآخر ذويه لكنه لا يدرك ذلك، فيحتضنه ويربيه مخفياً عليه أنه ليس أباه بل شخص تبناه. وهكذا يلتقي المصيران ويترافق الجندي والطفل في الحياة، في نصّ سيجمع لا النقاد في بلاد السوفيات فقط ولكن في الغرب أيضاً، على أنه ربما يكون من أكبر النصوص التي عرفت كيف تندد بالحرب، كل الحروب، ولا إنسانيتها مدافعة في المقام الأول عن كرامة الإنسان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالتحديد اعتُبرت "مصير إنسان" قصة عن الكرامة الإنسانية. فسوكولوف سيظل على الرغم من كل الظروف والكوارث والصعوبات التي يمر بها، في البداية وحده وقد فقد كل شيء، وبعد ذلك في صحبة ذلك الطفل الذي سيصبح طفله بالتدريج، سيظل محافظاً على كرامته كإنسان غضّ نظره عن السياسات الكبرى وعن المصائر الجماعية التي يمر في أتونها لكنها لا تبدو مهمة بالنسبة إليه، وبالتالي يمنعها من أن تحطّمه أو تحطّم الفتى الذي رمت به الأقدار والمآسي إليه. وها هو ذات لحظة يروي لنا كيف أنه انحنى على الطفل ذات لحظة "وسألته فانيا ألا تعرف من أنا؟ فسألني: ومن تكون؟ وهو بالكاد يبدو قادراً على التقاط أنفاسه. فقلت له: أنا أبوك".
هنا يختتم شولوخوف نصّه بالعبارات التالية: إن الرجال الذين يتقدمون في السن وتمحو الحروب كل شيء من رؤوسهم، لا يبكون في الأحلام فقط. ولكن يتوجب عليهم أن يعرفوا كيف يستديرون بوجوههم في اللحظة المناسبة، إذ لا ينبغي أبداً لتلك الدمعة الهزيلة اللامعة التي تسيل على وجنتهم، أن تجرح قلب طفل. ولعل هذه الخاتمة بالذات هي التي أكدت قوة التعبير لدى هذا الكاتب الذي لا بد أن نلاحظ كيف أن التنديد به قد توقف تقريباً منذ زوال بلاده السوفياتية.
تلك البدايات المبكرة المباغتة
ولد ميخائيل شولوخوف في عام 1905 في كروجدلين ببلاد القوزاق لعائلة من المزارعين، وكان في الـ17 حين وصل إلى موسكو، من دون أن يكون قد تلقى دراسة كافية، فاشتغل كعامل، ثم فجأة بدأ ينشر قصصاً ومقالات في الصحافة الموسكوفية، أثارت الإعجاب بسبب قدرتها على وصف الحياة اليومية في السهوب ومناطق القوزاق. ثم في عام 1928 نشر الجزء الأول من "الدون الهادئ"، تلك الرواية التي واصل كتابتها ونشرها حتى عام 1940، وحققت له منذ جزئها الأول شهرة قومية وعالمية، بل أجمع على الإعجاب بها القراء الرسميون في الداخل والمهاجرون الروس في الخارج. ولكن بعد ذلك بكثير، بدأت الأسئلة تطرح مندهشة من حول شاب في الـ23 يكتب رواية حافلة بكل هذه الأبعاد الرؤيوية والفلسفية والسيكولوجية والإبداعية. وجاء الجواب خجولاً أول الأمر، ثم ملحّاً بعد ذلك: إن الكاتب الحقيقي لـ"الدون الهادئ" في صيغتها الأولى، هو القوزاقي الأبيض فيودور كريوكوف، الذي كان قد حارب الحمر طويلاً، ما منعه من إعلان أبوته للرواية التي حصل شولوخوف على نصها، فأجرى فيها بعض التعديلات ونشرها باسمه.
هذه النظرية ظهرت للمرة الأولى، على أي حال، في عام 1974 بشكلها المتكامل. غير أن التأكيد عليها لم يقلل من مجد شولوخوف وأهميته، إذ واصل نشر رواياته، التي لم يصل أي منها، إلى جودة "الدون الهادئ" ومنها: "الأرض حرثناها" و"حاربوا من أجل الوطن"، إضافة طبعاً إلى ذلك النص الكبير الذي تمثله "مصير إنسان"، وهي كلها روايات تُرجمت ونُشرت على نطاق واسع، كما حُوّلت إلى أفلام سينمائية كانت على الدوام، تعكس وجهة نظر السلطات في الإبداع الأدبي، ما جعل لشولوخوف مكانة كبيرة دائمة مكّنته من أن يصبح ذا سلطة اتُهمت بأنها قامعة لغيره من الكتّاب، ظل يمارسها ويطال بها المنشقين حتى وفاته، حين أجريت له جنازة بوصفه بطلاً قومياً.