"عندما تصمت الألسنة، تنطق الجدران"، هذه المقولة تؤكدها الوقائع في مدينة طرابلس اللبنانية. فعند كل زاوية وعلى كل درج أو واجهة بناء، لوحة أو جدارية تحكي واقع الحال، وتنتفض في وجه سياسات الإهمال والتهميش. وعلى الرغم من تنوّع الأنماط واختلاف المدارس الفنية، يتّفق أهل الفن على نشر رسالة تحوي مزيجاً لونياً من التمرّد والسلام والتعايش والتفاؤل.
وتتربّع ساحة النور التي اكتسبت الشهرة في أعقاب انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 على رأس قائمة الأحياء الطرابلسية التي تُرجمت فيها الأفكار على شكل جداريات، يليها شارع سوريا الفاصل بين منطقَتَيْ جبل محسن والتبانة، والشاهد على الاشتباكات المسلحة في المدينة. فيما تغطي الرسوم واجهات بعض المدارس الرسمية التي آمنت بدور الفن والتعبير الحرّ.
موجة الغرافيتي
خلال العقد الأخير، شهدت مدينة طرابلس موجة من الغرافيتي والرسم على الجدران. في البداية، نظر العامة إلى هذه الرسوم والعبارات والجمل على أنها نوع من "الخربشات" ومجرد تسلية لأولاد الشوارع. لكن مع الوقت، بدا السكان أكثر تقبّلاً لهذه الرسوم والجداريات المعقّدة أحياناً، التي تحمل رسالة اجتماعية أو ثقافة تغييرية.
وأسبغت الألوان جمالية على شوارع المدينة المكلومة، وغطّت شيئاً من آثار الحرب، لأن عملية إعادة الإعمار التي شهدها لبنان بعد الطائف، لم تصل إلى شمال البلاد الأقرب إلى سوريا. وانطلقت مجموعة من المبادرات الشبابية نظّمها طلاب العمارة والهندسة الداخلية، وأثمرت عدداً من الإنجازات، وأهمها على درج مقهى التل العليا.
الكاليغرافيتي في خدمة السلام
في فترات هدوء الاشتباكات بين جبل محسن والتبانة التي بدأت عقب أحداث 7 مايو (أيار) 2008، كان الفن يتسلّل على يد ابن التبانة محمد الأبرش ليطلق رسالة التعايش والحياة بين أهل المنطقة الواحدة، الذين فرّقتهم السياسة والموقف من النظام السوري.
اعتمد الأبرش وفريق المتطوعين معه نمط الكاليغرافيتي، وهو الرسم الذي يستخدم شكل انحناءات الأحرف العربية في الجداريات. نثر شباب التبانة الحياة على واجهات المباني في خطوط التماس في شارع سوريا، من طلعة العمري إلى ستاركو، وصولاً إلى الملّولة وطلعة الشمال. كسر الفن الحواجز بين الأخوة الأخصام، وتحوّلت جدران جبل محسن إلى انطلاقة جديدة في العلاقة مع أبناء التبانة.
لم تبادر الدولة والهيئات الحكومية لإغاثة أبناء المنطقة، فسعى فريق المتطوعين إلى مسح ما أمكن بالريشة وطلاء واجهات المباني، بعد أكثر من 20 جولة عنف أهلي، ليستعيد أبناء التبانة بعض لحظات الراحة، وذكريات قديمة عندما كانت تُعرف بـ"باب الذهب"، وتحوّلت لاحقاً إلى الأكثر إهمالاً وتهميشاً.
فن الثورة
كسرت انتفاضة 17 أكتوبر الرتابة السياسية والثقافية في مركز محافظة شمال لبنان. واحتلّ الرسم على الجدران مكانة بارزة في إطار المقاومة الفنية. أولى الخطوات كانت برسم محمد الأبرش لجدارية العلم اللبناني على براد الغندور المطلّ على ساحة النور. لاقت الجدارية ترحيباً كبيراً، فهي غيّرت صورة المبنى الساكن، الصامت، الذي يعلوه السواد والرهبة. وأسهمت في تغيير صورة المدينة. لم يكن إنجاز الجدارية بناءً على تمويل جهات رسمية، وإنّما من خلال حملة أُطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لشراء الطلاء وتغطية المبنى، الذي باتت تتوسّطه عبارة "طرابلس مدينة السلام".
عادت طرابلس لتحتلّ مركز القلب لدى اللبنانيين المنتفضين، لذلك تفاعل الفنانون مع سقوط القتلى. وتحوّل أحد جدران الساحة إلى ما يمكن أن يصطلح على تسميته "جدار الشهداء"، فهو ضمّ صور ضحايا الانتفاضة، من حسين العطار، إلى علاء أبو فخر وفواز السمان.
في الأيام الأخيرة، رسم الأبرش جدارية معبّرة على حائط بنك لبنان والمهجر الذي تعرّض للإحراق خلال موجة الاحتجاجات الماضية، إذ رسم العلم اللبناني، يتوسّطه برعم أرزة لبنان التي انبعثت من جديد. الأبرش الذي يستعد لخوض تجربة جديدة في حياته العائلية، يتعهّد بمواصلة الطريق الذي بدأه منذ سنوات، من خلال دراسة الهندسة.
الفن في خدمة التغيير
حقيقة أخرى أكدتها جدران طرابلس، وهي أن الفن أداة للتغيير بعيداً من الاختلافات العرقية والثقافية والجنسية. يُعدُّ غياث الروبة، الفلسطيني المولود في سوريا، نموذجاً لذلك. ففي الفترة التي أعقبت اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر، بدأ اسم الروبة يحضر في أكثر من موقع، مقروناً بعبارة art of change. وجّه عدداً كبيراً من الرسائل من خلال جدارياته، بما في ذلك توجيه التحية إلى الطواقم الطبية من خلال الرسمة التي زيّنت واجهة المستشفى الحكومي في طرابلس، ورسالة أخرى انتشرت من خلال جدارية "تعبنا" التي يوضح أنه استلهمها من صورة أرسلها إليه أحد أصدقائه الذي يعمل مصوراً صحافياً في سوريا. وتتضمّن الجدارية الثلاثية الأبعاد "عامل نظافة" أثخنته جراح الحياة وأعياه التعب.
أخيراً، اقترن توقيع الروبة مع توقيع الفنانة نغم عبود، إذ رسم الفنانان على واجهة البنك اللبناني الفرنسي جدارية ذات بُعد نقدي، هي عبارة عن ورقة مئة ألف ليرة، تنظر إلى نفسها في المرآة، على نور الشمعة، لتظهر على أنها ألف ليرة لبنانية، في إشارة إلى تدهور سعر صرف الليرة وتقنين التيار الكهربائي.
يلفت الروبة إلى أن هويته الفلسطينية لم تكن محلّ انتقاد في عمله، لأنه كفنان يتبنّى هوية المنطقة التي يعيش فيها ويحبها، ويعتبر نفسه جزءًا من المدينة وهمومها، هو الذي يسكن فيها منذ أكثر من سبع سنوات.
ينطلق الروبة في عمله من السكيتش، قبل أن ينتقل وينفّذ على أرض الواقع. ويوضح أنه تلقّى دروساً في رسم المناظر الطبيعية من الرسام الفلسطيني منير الزين بالألوان الزيتية.
في المحصّلة، يكافح الفنانون في عاصمة شمال لبنان من أجل البقاء. وشكّل ارتفاع سعر صرف الدولار عائقاً أمام استمرار عملهم وتأمين التجهيزات الفنية واللوجستية، ولكن في المقابل تلتمس لديهم المزيد من الإصرار لتحسين صورة المدينة، والتمسّك بحرية الفكر والتعبير في أزمنة القمع والفتن الأهلية المتنقلة.