Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صراع الإنسان بين حلم وخيبة في قصص نجلاء علام

"سيرة القلب" مشاهد سردية لشخصيات مهمشة تعيش مواجهات الخير والشر

لوحة للرسام المصري محمد عبلة بعنوان "احلام الرحلة" (موقع الرسام)

العنوان الذي اختارته نجلاء علام لمجموعتها القصصية الجديدة "سيرة القلب"، هو عنوان مخادع، فالمجموعة لا تحمل شيئاً مِن فن السيرة الذاتية؛ ناهيك عن أن تكون سيرة عاطفية. فالذات على مدار قصص تلك المجموعة تقف خلف الشخصيات والأحداث ودائماً ما تتخذ مسافة تتيح لها معرفة وتأمل ما يقع خارجها من دون أن يمنع ذلك قدرتها على استبطان ما تقدمه من شخصيات وما تصوره من مشاهد سردية. نحن إذاً أمام سرد موضوعى، ومن هنا تنوعت الشخصيات تنوعاً كبيراً، وإن ظل أغلبها يدور في فلك الفئات المهمشة أو التي لا تتجاوز الطبقة الوسطى. وعلى عادة نجلاء علام في أعمالها السابقة نجد صراعاً بين عجز الإنسان ورغبته في التحليق وتجاوز واقعه المحبط مستخدمة في ذلك تقنية الحلم بوصفه مفجراً لطاقات الإنسان.

ساق وحيدة

يظهر ذلك فى قصة "بساقٍ وحيدة أمشي"، فالعنوان يحيلنا إلى آفة العجز التي تعاني منها هذه الشخصية، لكنها لم تقعدها، فلا زالت – وهنا يتمثل فعل الإرادة – تمشي بهذه الساق الوحيدة. إننا أمام مفارقة أولى على مستوى الجملة الخبرية التي يتكون منها العنوان وهو ما يعد إرهاصاً بمفارقة أكبر بين هذا العجز المتبدى وقدرة هذه الشخصية عن طريق الحلم على صعود جبل شاهق حتى تصل إلى قمته التي لا تتسع إلا لساق وحيدة. وتقوم القصة على ثنائية النهار والليل، فالنهار وقت الصخب والمطالب الاعتيادية، أما الليل فهو وقت الأحلام وهدوء إيقاع القلب بعد اللهاث الممض في البيت والعمل. واللافت أن الساردة تنتقل من ضمير الغائب في تقديمها لهذه الشخصية إلى ضمير المتكلم في المقطع الثاني، ما يعني حضوراً أقوى. لقد أصبحنا نراها ونسمعها، أصبحت حاضرة بعد أن كانت غائبة. والانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم يعني انتقال السرد من الأسلوب غير المباشر إلى الأسلوب المباشر. تقول الساردة على لسان الشخصية: "أغمضت عيني، فإذا بفتيات كالملائكة يقلن: "اقبلى أيتها العروس"، ويضعنني على شط جدول للماء رائق وطيب تجري مياهه بين صخور كستها أعشاب. قيل: استشعري عذوبة الماء ونقاءه". وتتجاوب هنا رمزية الجبل مع رمزية الماء، فالجبل مأوى الزاهدين والعابدين، ما أسهم في تأكيد رغبة السمو الروحي. والماء مصدر الحياة وهو مادة الوضوء والطهارة. وتتوالى الصور المنتمية إلى السماء في تقابل دال مع ما ينتمي إلى الأرض، حيث "يدير القمر وجهه لأنه على موعد مع قمرة بعيدة تدور حول كوكب بعيد"، فى الوقت الذي يزعق فيه صوت ضفدع وحيد "لوليفته الراقدة وسط بركة الطين تحملق في الظلمة". لا شىء يبدو مجانياً عند الكاتبة وآية ذلك حرصها على وصف بِركة الطين بالظلمة لتصنع مقابلة بينها وبين ضياء القمر.

طيور الخير

"طيور الأرض" وهو عنوان القصة الأولى دال يتوسط الأرض والسماء وينتمي إلى الأرض لكنه يحلق دائماً، لهذا فهو دال جاذب للإنسان الساعي إلى الرقي ومجاوزة الضرورة الأرضية، كما أنه رامز للخير طبقاً للمعتقدات الشعبية. فما إن تراه أم الساردة حتى تقول "أهلاً بطير الخير. تحمل رسالة لمن؟ يارب تكون رزقاً". ويصبح هناك ما يشبه الارتباط الروحي بين الأم وهذه الطيور؛ حتى أنها تودعها وهي في طريقها للمقابر، وتظل – أى هذه الطيور- مرتبطة بما يحققه السارد من نجاحات، إن النظر إلى السماء أو لما يتجاوز هذه الأرض يحقق إنسانية الإنسان وتوازنه وينقذه من دوامة اللهاث التي لا تنتهي؟ وهكذا تصل القصة إلى ما يمكن أن نسميه "بيت القصيد"، أو حكمتها العميقة حين تقول: "في مضمار الجري لا ينظر أحدنا إلى السماء". الكل ينظر إلى الأرض وعندما يصل إلى نهاية السباق لا يزيده ذلك إلا إصراراً على الفوز فى المرة القادمة أيضاً.

وهكذا لا تنتهي اللعبة كأن الفوزلا يروي ظامئاً بل يزيده عطشاً، على العكس من هذا السارد الذي أصبح موظفاً مهماً في إحدى المؤسسات وتنحدر الحال بشقيقه الذي اضطرته الظروف للشحاذة أمام تلك المؤسسة. لكن الكاتبة تجعل النهاية مفتوحة وموحية بالخير الذي سوف يأتي هذا الشقيق حين يقول لأخيه: "حلمت البارحة بأمنا وكانت تبتسم وتحمل في يدها طائراً لونه أبيض وقالت لى: "اعط هذا عباساً". قال هذا بينما ظل يحدق في الطيور الكثيرة التي تحوم في السماء، وكان هذا علامة على الخير القادم".

نجلاء علام ليست كاتبة رومانسية أو مثالية تتعالى على أديم الأرض، هى تود فقط عدم تقييد حركة الإنسان ووعيه وأحلامه بهذا العالم الضيق. ففى قصة "ربما" تعتز على لسان "آدم" بهذا الأديم وبالأصل الطيني الذي يجمع الخير والشر أو الطيب والخبيث، لأن كل هذا لم يمنع من أن تسجد له الملائكة وأن يعطى وبنوه "عقلاً وقدرة على التجريد واستعمال المنطق وتوقع المستقبل ومقدرة فريدة على إبداع الفنون والاستمتاع بها". وهى قدرات لم تكن لعدوه الأزلى إبليس رغم إغراءاته الكثيرة وأبواب المتع التي فتحها لبني آدم، هذه الإغراءات التي كان يعزز بها مكانته كل يوم بينهم والتي جعلت آدم يصرخ فيهم: "لن تشعروا باكتمالكم إلا بانتصاركم عليه". وقد تكون قصة "ذكريات نبتسم لها" انتصاراً على نوازع الشيطان وتأكيداً لنوازع الخير داخل الإنسان بفعل مرور الزمن وانتهاء موضوع الصراع، فهي تحكي عن أرملتين في مرحلة الشيخوخة التقتا في المحكمة لعمل "إعلام وراثة"، وتظل كل واحدة تحكي ما قدمته لهذا الزوج في حياته التي بلغ فيها درجة كبيرة من الثراء بعد فقره وفجأة تدعو إحداهما الأخرى إلى تناول "الحمام المحشو" من عمل يديها ويخرجان تتأبط كل منهما ذراع الأخرى ويحملان ذكريات – مع زوجيهما – يبتسمان لها.

ذكريات مبتسمة

لقد عالج الزمن كل شىء وداوى ما كان بينهما من غيرة مكتومة. وكما كان الزمن فى " ذكريات نبتسم لها" قادراً على إنهاء حالات الغيرة والصراع نراه في "معاودة" قادراً على تبديل المشاعر من الحب إلى الجفاء، فهي تحكي عن محاولة رجل في مرحلة الشيخوخة استعادة علاقة حب قديم لم تتوج بالزواج؛ يقول لحبيبته القديمة: "مرت عشرون سنة لكنك مازلت كما أنت جميلة ويمكننا أن نبدأ من جديد، هي – يقصد زوجته – سافرت والأولاد كبروا وأنا... أنا". إن البدء من جديد مجرد حلم فلا شىء يظل كما هو بعد عشرين عاماً وها ما تدركه المرأة حين رأته: "وجه نحيف مصَّه الزمن وشعرات خشنة بيضاء نافرة وأسنان بنية من أثر السجائر وقلب مريض"، فما كان منها إلا أن دفست العقد الذي كان قد أهداه لها داخل فمه ثم أغلقت الباب كأنها تضع ستاراً غليظاً على ذلك الماضى البعيد الذي أصبح من المستحيل استعادته.

الطبيعة على خلاف الزمن هي الملاذ الرحيم الذي يحتضننا ويحنو علينا، ففي قصة "إيقاع" يظهر هذا المعنى حيث نجد امرأة تعيش في رحاب الطبيعة تجلس على ربوة عالية في الحديقة تحت شجرة كبيرة "تنزل إليها الطيور لتداعبها وتصعد إليها الحشرات لتختبىء فيها عندما يسقون الشجرة"، لكن آلات الحداثة – تشير القصة إلى الكاميرا تحديداً – تكسر إيقاع هذه الحديقة الهادئة حيث هجم خمسون من العاملين في قناة جديدة عليها وعندما نهروها للابتعاد عن المكان "بدأت ككل يوم بإنشاد أغنيتها"، فأنس لصوتها "الطير والحشرات والشجر والأحبة"، واكتظت الحديقة بالناس انجذاباً لصوتها. وعندئذ: "نظر المخرج في كاميرته وأيقن أنه المشهد الوحيد الطبيعي الذي يصوره في حياته وبدأ التسجيل"؛ في إشارة إلى انتصار ما هو طبيعى فطري على ما هو مصنوع مفتعل.

وقصة "النعشان" هي قصة رمزية تعتمد على التصوير الفانتازي وتقوم على صراع الموت والحياة حيث نجد "نعشين" خلفهما شيخان ووراء كل شيخ صف من الرجال. نحن إذن أمام سرد واقعي لكن الانحراف يلوح من خلال عبارات مثل "هما وحدهما – تقصد الشيخين – يعرفان كيف جاء النعشان إلى الوجود"، أو أن الميتين صنعا النعشين ليضعا فيهما خلاصة أفكارهما، أو أن يقال إن "النعشين نزلا من السماء عليهما"، أو أنهما خرجا من باطن الأرض وأنهما بوسع الأرض والسماء، ويقال إن الشيخين اشترطا "على المشيعين أن يسلم كل واحد منهم جسمه بعد الموت إلى نعشه". إنها دعوة صريحة إلى الموت ولا يتغلب عليها إلا صوت شابين لا يكبران مهما مر عليهما الزمن، كأنهما رمزان للحياة والحيوية الدائمة. يتسرب صوتهما الشجي الفرح بالحياة ويعلو "فيطير النعشان إلى فضاء سحيق. يختفيان ولا يبقى سوى شيخين ضريرين يتخبطان في مشيهما". إرادة الحياة هي التى تنتصر في النهاية مثلما انتصر ما هو طبيعي. ولعل من المفيد أن نلاحظ توظيف الكاتبة لدال الصوت الشجي العذب ودال الغناء الذي يتكرر في قصة "في قلبي غرام"، والغناء تحرير لطاقات الإنسان وهو ما يمكن تأويله بوصفه الإبداع القادر على تجديد الحياة واستمرارها، وهو ما فعلته الكاتبة بلغة شاعرية آسرة على مدار مجموعتها القصصية.

 

المزيد من ثقافة