Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصبور المهاجر ينتظره البصريون بشغف ويأكلونه بحذر

يبدأ بالوصول على شكل أسراب إلى مصبّ شط العرب آتياً من شبه القارة الهندية

أحد باعة سمك الصبور في سوق العشار بالبصرة (اندبندنت عربية)

ما من مدينة عربية كالبصرة الواقعة جنوب العراق من حيث كثرة الأنهار، إذ تخترقها طولاً وعرضاً العشرات، وفي مناطقها الشمالية تقع الأهوار.

ومن أقصى جنوبها تطلّ على الخليج، وبذلك أوجدت وفرة المياه المالحة والعذبة، تنوعاً فريداً في الثروة السمكية، ويبلغ الصيادون ذروة انهماكهم خلال موسم صيد الصبور، وهو نوع من الأسماك المهاجرة يكتسب أهمية استثنائية على مستوى الذائقة الغذائية المحلية، وللبصريين عاداتهم المتوارثة في طرائق صيده وبيعه وتحضيره وأكله.

من البحر إلى الهور

مع بداية كل فصل ربيع، يبدأ سمك الصبور بالوصول على شكل أسراب إلى مصبّ شط العرب آتياً من شبه القارة الهندية، وبعد تكاثره وبقائه لأشهر قليلة في المياه العراقية، يعود إلى موطنه الأصلي، باستثناء ما يَعلق منه في شباك الصيادين، ومن ثم يكرّر رحلة الإياب والذهاب على امتداد دورة حياته التي تصل إلى خمس سنوات.

شمال الخليج

وفي كل مرة عندما يصل الصبور إلى شمال الخليج ضمن هجرته التكاثرية، لا يستقرّ قرب السواحل العراقية والكويتية والإيرانية، بل يتوغّل في شط العرب حتى يبلغ مناطق الأهوار.

وفي حالات نادرة، يصل إلى بغداد عبر نهر دجلة، وفي هذه الأثناء تكثر شباك الصيد العائمة في شط العرب والمياه الإقليمية العراقية، وهي شباك خيشومية تتراوح أطوالها ما بين 100 إلى 1000 متر، وكثيراً ما تعرقل مرور السفن التجارية إلى ميناءَيْ أبو فلوس والمعقل التجاريين خلال موسم صيد الصبور.

أما دوريات حرس السواحل العراقية، فتكون أكثر يقظة وانشغالاً خلال موسم صيد الصبور، لأن المهربين يستغلون كثافة زوارق الصيد في المنطقة، فيتظاهرون بممارسة الصيد للتمويه على عمليات التهريب، ما يثير امتعاض الصيادين الحقيقيين الذين يخضعون نتيجة هذه الممارسات إلى إجراءات مشدّدة، تشمل منعهم بعد مغيب الشمس من الصيد في المقطع المشترك من شط العرب.

كورونا

وأضافت جائحة كورونا خلال العام الحالي، سبباً آخر لتقييد حرية الصيادين، إذ حظّرت السلطات الصيد البحري كلياً في بداية الأزمة، ومن ثم سمحت لهم بالعمل ساعات معدودة يومياً.

ندرة بعد وفرة

ما عدا سكان البصرة، لا يأكل معظم العراقيين سمك الصبور، لكن استهلاكه يحظى بإقبال جيد في دولة الكويت ومحافظة خوزستان الإيرانية.

وكان الصبور لوفرته في البصرة، يُباع بأسعار زهيدة جداً، والفائض منه يُستخدم في تسميد النخيل، لكن تناقص أعداده خلال العقود الثلاثة الماضية، جعله أغلى سعراً من كل أنواع الأسماك الأخرى، إذ وصل سعر السمكة الكبيرة منه خلال الموسم الحالي إلى 50 ألف دينار (40 دولاراً)، وبذلك خسر الصبور لقب "سمكة الفقير".

انخفاض مستمر

في المقابل، تشير دراسة أعدها باحثون عام 2015 إلى أن نسبة سمك الصبور ضمن الصيد الكلي للأسماك البحرية العراقية في انخفاض مستمر، إذ تراجعت نسبة الصيد من 52.9 في المئة خلال الفترة 1991-1994 إلى 30.7 في المئة بين 2000 و2006، ومن ثم انخفضت النسبة مجدداً إلى 18.9 في المئة (2007-2011).

وقال مدير مركز علوم البحار في جامعة البصرة الدكتور نوري عبد النبي إن "تناقص الصبور في المياه العراقية يعود إلى زيادة معدلات التلوّث وحدوث تغيرات حرارية وارتفاع نسب التراكيز الملحية في المياه".

وأضاف في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن "الأهمية الاقتصادية للصبور شجّعت على تنفيذ تجارب لإكثاره في الأسر، لكن هذه المحاولات لم تنجح".

بينما أفاد مدير جمعية صيد الأسماك بدران عيسى التميمي بأنّ "كميات الصبور التي يجلبها الصيادون لا تغطّي الطلب المتزايد على استهلاكه"، موضحاً أن "في ظلّ تناقص الأسماك البحرية وتقييد حركة زوارق الصيد لأسباب أمنية وعدم تجهيزها بالوقود المدعوم حكومياً، فإن مهنة الصيد البحري لم تعد تغري الصيادين بالاستمرار، ولذلك تراجعت أعداد زوارق الصيد العاملة في البحر من 1300 إلى 180، وآلاف الصيادين انصرفوا إلى مهن وأعمال أخرى".

عادات وتقاليد

للصيادين وباعة السمك في البصرة، مصطلحاتهم الخاصة التي يشاطرهم إيّاها بعض المشترين المدمنين على أكل الصبور، كتمييزهم للسمكة على أساس حجمها بقولهم هذا صبور "تسيعي" وذاك "عشيري"، والأكبر تُسمّى "الكلداني".

ومن تقاليد البصريين في تحضير الصبور، أنه يُشوى ولا يُقلى، وعادة ما يُحشى بخليطٍ من تمر الهند والبصل والثوم والكرفس والبهارات، والجمعة هو اليوم الأنسب لأكله، ربما لأنه يوم عطلة رسمية.

ويسبّب الصبور بعد تناوله إحساساً بالخمول والنعاس، كما يحتاج أكله الى صبر وحذر لكثرة ما فيه من أشواك دقيقة، ومن هنا جاء المثل الشعبي "الصبور مأكول مذموم"، وهو يضرب للإقبال على الشيء، ومن ثم التذمّر منه.

ويؤكد الكاتب والباحث في شؤون التراث ليث عبد الرحمن أن "البصريين يفضلون استهلاك الصبور الذي يصطادونه في شط العرب على الذي يُجلب من البحر، فالأول أطيب مذاقاً من الثاني".

ومن العادات التي درج عليها باعة السمك في البصرة أن لا يبيعوا الصبور مفرداً أو بطريقة الوزن بوحدة الكيلوغرام، إنما يبيعون كل سمكتين معاً، خلافاً لأنواع الأسماك الأخرى، وهناك من يعزو نشأة هذه الظاهرة إلى توخي السهولة والسرعة في إتمام البيع عندما كان الصبور في الماضي متوفراً بكثرة ورخيص الثمن.

بنغلادش

ولعل البحّارة البنغال الذين كانوا يتردّدون على موانئ البصرة نقلوا بعفوية عادة بيع الصبور بهذه الطريقة، فعند تقفّي أثرها في الموطن الأصلي للصبور، يتّضح أنه يُباع أيضاً أزواجاً، وهو السمكة الوطنية في بنغلادش، ويُعرف باسم "إيليشا" هناك وولاية البنغال الغربية في الهند.

ومن تقاليد العوائل الهندوسية البنغالية شراء عائلة العريس سمكتين من الصبور وتقديمهما إلى عائلة العروس خلال حفلة تُقام قبل يوم أو يومين من موعد الزفاف.

وفي مناسبات دينية معينة يقدمون سمكتين من الصبور كقرابين إلى الآلهة، وتُظهر رسومات قديمة الإله ماتسيا على هيئة نصف إنسان له أربعة أذرعٍ ويتّصل بجسد سمكة تشبه الصبور. وبحسب العقيدة الهندوسية، فإنّ هذا الإله أنقذ الإنسان الأول على الأرض من طوفان هائل.

الجاحظ والصبور

يُشاع أن البصريين اشتقّوا اسم الصبور من الصَبر في ضوء تجشمه عناء الهجرة آلاف الكيلومترات في كل عام، لكن هذا التصوّر لا يبدو دقيقاً لأن الصبور كان يُسمى قديماً الأسبور.

وفي بحثٍ بعنوان "الكلم اليونانية في اللغة العربية" نشره اللغوي أنستاس الكرملي عام 1899 في مجلة "المشرق" اللبنانية، أشار إلى أن "الأسبور يأتي البصرة في وقت معين يعرفه أهلها، ويبقى مقدار شهرين، وبعدها لا تبقى واحدة من هذا النوع، وهو إلى اليوم معروف بهذا الاسم، وربما قالوا الأصبور أو الصبور بإسكان الصاد، وهو تعريبٌ لكلمة يونانية بمعناه، وبالفرنسية Spare، وبالرومية Sparus".

وقبل أكثر من ألف سنة، ذكر الأديب الجاحظ في كتابه "الحيوان" أن "هذا بحر البصرة والأبلة، يأتيهم ثلاثة أشهر معلومة من السنة السمك الأسبور، فيعرفون وقت مجيئه وينتظرونه، ويعرفون وقت انقطاعه ومجيء غيره، فلا يمكث بهم الحال إلّا قليلاً حتى يقبل السمك من ذلك البحر، في ذلك الأوان، فلا يزالون في صيد ثلاثة أشهر معلومة من السنة، وذلك في كل سنة مرتين لكل جنس، ومعلوم عندهم أنه يكون في أحد الزمانين أسمن، وهو الجواف، ومن ثم يأتيهم الأسبور، على حساب مجيء الأسبور والجواف".

أما الأسبور، فهو يقطع إليهم من بلاد الزنج، وذلك معروف عند البحريين، وأن الأسبور في الوقت الذي يقطع إلى دجلة البصرة (شط العرب) لا يوجد في الزنج، وفي الوقت الذي يوجد في الزنج لا يوجد في دجلة، وربما اصطادوا منه شيئاً في الطريق في وقت قطعها المعروف، وفي وقت رجوعها".

ولا يخفي الجاحظ إعجابه بأكل الصبور بناءً على قوله "عرفتُ أصناف الأسبور والبرستوك والجواف بأعيانها وأزمانها لأنها أطيب ذلك السمك".

المزيد من منوعات