في خطوة قضائية مفاجئة شكلت صدمة لدى المجتمع اللبناني، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في صور، محمد مازح، قراراً يمنع بموجبه أي وسيلة إعلامية لبنانية من أخذ تصريح للسفيرة الأميركية لدى بيروت دوروثي شيا.
وحملت وزارة الخارجية الأميركية، وفق وكالة الصحافة الفرنسية، بعنف على حزب الله واتهمته بـ"محاولة إسكات الإعلام اللبناني". وفيما اعتبرت أن الأمر "مثير للشفقة"، قالت "حتى التفكير في استخدام القضاء لإسكات حرية التعبير وحرية الصحافة أمر سخيف". وجددت الوقوف "مع الشعب اللبناني ضد رقابة حزب الله".
وجاء القرار القضائي بعدما صرحت السفيرة شيا في مقابلة أجرتها معها قناة "الحدث" التلفزيونية، الجمعة 26 يونيو (حزيران)، أن "الولايات المتحدة تشعر بقلق كبير حيال دور حزب الله المصنف منظمة إرهابية".
واتهمت شيا حزب الله المدعوم من إيران بأنه "حال دون إجراء إصلاحات اقتصادية يحتاج إليها الاقتصاد اللبناني إلى حد بعيد".
وبعدما تردد أن مسؤولاً حكوميّاً لبنانيّاً بارزاً اتصل بالسفيرة الأميركيّة مستنكراً، تتردد معلومات صحافيّة أن المسؤول هو وزيرة الدفاع ونائب رئيس الحكومة زينة عكر. علماً أن وزيرة الإعلام منال عبد الصمد نفت حصول ذاك الاتصال.
"السفارة الأميركية لن تسكت"
وفي رد على هذا الإجراء، وصفت السفيرة الأميركية قرار القاضي بأنه "نوع من تحييد الأنظار والإلهاء بدل أن يُصار إلى الانكباب على حل مشكلات البلد الاقتصادية الكبيرة التي وصلت إلى حد يقلق اللبنانيين إزاء تأمين الطعام". وأضافت "لن تسكت السفارة"، كاشفة أنها تلقت اعتذاراً هاتفياً من جانب الحكومة.
يُذكر أن قرار القاضي مازح جاء على خلفية المقابلة الأخيرة للسفيرة مع قناة "الحدث". وكانت شيا أشارت إلى أن "مليارات الدولارات ذهبت إلى دويلة حزب الله بدلاً عن الخزينة الحكومية"، لافتة إلى أنه "لدينا قلق بالغ من حزب الله الذي بنى دولة داخل الدولة في لبنان".
وشددت على أن "قانون "قيصر" ليس موجهاً ضد اللبنانيين والاقتصاد اللبناني، وهو لا يستهدف إلا نظام الرئيس السوري بشار الأسد وداعميه، والمقصد من هذا القانون "تجفيف تمويل النظام الذي يقتل السوريين". وتابعت "كنتُ واضحةً بطمأنتي للبنانيين بأن (قيصر) لا يستهدفهم".
وأعلنت "هناك عقوبات قد تطال حلفاء وداعمين لحزب الله من طوائف أخرى، كما أن هناك عقوبات ضد الإرهابيين تطال حزب الله وداعميه".
ورأت أن "مطالب اللبنانيين محقة وعلى الحكومة الالتزام بمطالب 17 أكتوبر (تشرين الأول)، فهذا الحراك مطلبي وعضوي وعفوي". وقالت "مضحك من يتهمنا بأننا وراء حراك 17 أكتوبر فهو مطلبي محق".
واعتبرت أن "الصين تبني علاقاتها التجارية على مصالح تعود إلى الحزب الحاكم، بينما علاقاتنا التجارية مبينة على مصالح مشتركة"، مشددة على أن "واشنطن من أكبر الداعمين للبنان وشعبه"، وقالت "أرسلنا في الفترة الأخيرة مليارات الدولارات كمساعدات غذائية".
سلسلة ردود منددة
وفور صدور القرار، توالت ردود الفعل السياسية والإعلامية المستنكرة والمستهجنة، وغرّدت وزيرة الإعلام عبر "تويتر" قائلة، "أتفهم غيرة القضاء على أمن الوطن من تدخل بعض الدبلوماسيين في شؤونه الداخلية، لكن لا يحق لأحد منع الإعلام من نقل الخبر والحد من الحرية الإعلامية، وفي حال كان لدى أحد مشكلة فليكن الحل عبر وزارة الإعلام والنقابة والدور الاستشاري للمجلس الوطني للإعلام وانتهاءً بمحكمة المطبوعات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأسف البطريرك الماروني بشارة الراعي لصدور "حكم قضائي مستغرب يمنع شخصية دبلوماسية تمثل دولة عظمى من حق التعبير عن الرأي، ويمنع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية من إجراء أي مقابلة معها أو أي حديث لمدة سنة".
واستغرب الراعي أن "يصدر الحكم في يوم عطلة وخلافاً للأصول القانونية، مشوهاً صورة القضاء اللبناني، ومخالفاً للدستور، وناقضاً المعاهدات الدولية والاتفاقيات الدبلوماسية"، داعياً إلى "الاستنكار والتصويب".
وغرّد رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي عبر "تويتر" مستغرباً القرار، وكتب "مستغربٌ جداً قرار قاضي الأمور المستعجلة بمنع السفيرة الأميركية من التصريحات الإعلامية ومنع وسائل الإعلام من استصراحها" معتبراً أن هذا "يُشكل تجاوزاً للدستور وتعدياً على دور وزارة الخارجية وانتهاكاً للمعاهدات الدولية وإساءة للبنان وللحرية الإعلامية، والأخطر أنه يقدم نموذجاً واضحاً لوضع القضاء".
كذلك علّق النائب السابق فارس سعيد عبر "تويتر" قائلاً، "قرار القاضي محمد مازح منع وسائل الإعلام نقل أنشطة السفيرة الأميركية يؤكد أننا أمام قضاء خاضع لنظام الأمن اللبناني الإيراني، نطلب من نقيب المحامين ورئيس مجلس القضاء التحرّك فوراً".
وسيلتقي وزير الخارجية والمغتربين ناصيف حتي السفيرة الاميركية الإثنين 29 يونيو (حزيران)، على خلفية تصريحاتها الاخيرة.
وبطبيعة الحال، رفضت وسائل الإعلام اللبنانية هذا القرار، واعتبرته تدخلاً في قدسية العمل الإعلامي وحريته التي يصونها الدستور اللبناني والقوانين المرعية الإجراء، واعتبرته قراراً غير ملزم وغير نافذ.
وأكد مصدر قضائي أن قرار قاضي الأمور لا يمكن أن يُنفَذ على أرض الواقع، لأن لا سلطة للقضاء اللبناني على سفير دولة أجنبية يخضع أساساً لسلطة بلده، ما لم يرتكب جرماً جنائياً في لبنان يعاقب عليه القانون.
ونقلت الوكالة الوطنية للإعلام أن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات "لم يطلب إحالة قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح على التفتيش القضائي على خلفية قرار العجلة الذي أصدره. وسيعقد مجلس القضاء الأعلى جلسته العادية الثلاثاء 30 يونيو.
أما "حزب الله"، فاعتبر عضو كتلته النيابية حسن فضل الله أن "التصريحات للسفيرة الأميركية في بيروت تشكل اعتداء سافراً على سيادة بلدنا وكرامته الوطنية" وطالب السلطات اللبنانية وفي مقدمها وزارة الخارجية بـ"التحرك الفوري لإلزام هذه السفيرة احترام القانون الدولي، الذي يحدد واجبات الدبلوماسيين، وإلتزام القوانين اللبنانية النافذة، وهو أمر سنتابعه وفق الأطر القانونية، لأن السلوك العدواني لهذه السفيرة، هو تجرؤ وقح على الدولة، وهو تحد لقوانينها ولأحكام سلطتها القضائية".
اتفاقية فيينا
صفوف الدبلوماسية اللبنانية استنكرت أيضاً القرار، وشدّد عددٌ من أعضائها على ضرورة التزام لبنان باتفاقية فيينا الدبلوماسية التي تمثل قاعدة التعامل مع دبلوماسيي البلدان المعتمدة.
وتنص المادة 29 من هذه الاتفاقية على أن "للشخص الممثل الدبلوماسي حرمة، فلا يجوز بأي شكل القبض عليه أو حجزه، وعلى الدولة المعتمَد لديها أن تعامله بالاحترام اللازم له، وعليها أن تتخذ الوسائل المعقولة كافة لمنع الاعتداء على شخصه أو على حريته أو على اعتباره."
كما أن المادة 31 من الاتفاقية الملزمة للبنان تؤكد في البند الأول على أن أي دبلوماسي "يتمتع بالحصانة القضائية الجنائية في الدولة المعتمَد لديها، ويتمتع أيضاً بالحصانة القضائية المدنية والإدارية".
وتنص المادة نفسها في البند الثاني على أنه "لا يجوز إجبار الممثل الدبلوماسي على الإدلاء بالشهادة، ولا يجوز اتخاذ أي إجراء تنفيذي ضده إلا في بعض الحالات المذكورة في فقرات من البند الأول من هذه المادة، وعلى شرط إمكان إجراء التنفيذ من دون المساس بحرمة شخص الممثل أو بحرمة مسكنه". كما تنص على أن "عدم خضوع الممثل الدبلوماسي لاختصاص قضاء الدولة المعتمد لديها لا يعفيه من الخضوع لقضاء الدولة المعتمدة".
ميدانياً، تتواصل التظاهرات والاحتجاجات في مختلف المناطق اللبنانية، احتجاجاً على الوضع الاقتصادي وانهيار سعر صرف الليرة، وغلاء المعيشة.