أنتج الصراع السياسي والاقتصادي بين الغرب والشرق دعوات متفرقة للإنفصال النقدي ووقف الاعتماد على الدولار في التعاملات التجارية. وغالباً ما جاءت هذه الدعوات نتيجة للعقوبات الأميركية والأوروبية على أنظمة ودول متهمة بارتكابات محددة، أو نتيجة لحماسة أيديولوجية في إطار الخطابات المتجددة ضد الإمبريالية والاستكبار كما في اللغة الإيرانية الممانعة.
ونسارع إلى القول إن هذه الدعوات لم تنجح. ولم نشهد أي تجربة ناجزة لها في التطبيق. فالعالم بمؤسساته الرئيسية لا يزال يعتمد سلة عملات أبرزها الدولار الأميركي والجنيه الإسترليني واليورو والين الياباني. والدول التي حاولت الاستغناء عن الدولار اعتمدت تبادلاً متكافئاً للمنتجات، أو حاولت ذلك، لكن بقيت العملات الصعبة أساساً في تسعير التبادلات.
سبب الحديث عن هذا الموضوع ما يثار اليوم في لبنان الغارق في أزمة اقتصادية مالية مصيرية، من دعوات للاتجاه شرقاً وقطع العلاقة مع أميركا والغرب بهدف معالجة تلك الأزمة. والحقيقة أن ليست أميركا ولا أوروبا من يتحمل مسؤولية هذه الأزمة. وهذا ما ينبغي تأكيده منذ البداية. فلبنان كان يتمتع بموارد مالية ضخمة وودائع واحتياطات في مصرفه المركزي عجزت دول أخرى غنية عن توفيرها، لكن الفساد والهدر اللذان ميّزا سلوك السياسيين الخارجين من الحرب إلى السلطة، أديا إلى سرقة موصوفة لودائع اللبنانيين وغيرهم في المصارف اللبنانية، وإلى التمادي في وضع اليد على أملاك الدولة وهدر مواردها في التهريب والاستملاك واستنزاف الواردات الضريبية.
لقد وضعت الحكومات المتعاقبة يدها على موجودات المصارف وهي ملكُ المواطنين، بوصفها ديوناً لإنجاز مشاريع إعمارية وإنتاجية، لكنها أضاعتها في خدمة زبائنية مذهبية وطائفية، وتكديساً لثروات هائلة باتت حديثاً يومياً للناس المغلوب على أمرهم.
حصل ذلك فيما كان الطرف المسلح في هذه الحكومات ينسج سلطته الخاصة في الداخل والخارج، فيخوض الحروب في سوريا والعراق واليمن وينظم الخلايا في البحرين... لمصلحة طهران. لقد حوّل حزب الله لبنان، الذي ينهار مالياً بقيادة فاسدين، إلى منصة هجوم على الدول التي أسهمت تقليدياً في نمو وازدهار لبنان، في الخليج العربي خصوصاً، ما جعل هذه الدول تحترس في علاقتها معه وتبتعد نسبياً، لتزداد الصعوبات التي يواجهها البلد الصغير حدةً.
لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها والأزمة إلى مسبباتها قبل الانخراط في ابتداع بدائل سياسية لن تؤدي إلا إلى تضييع المسؤوليات وإبعاد الحلول الجدية. وإذا كانت الأسباب معروفة فإن انعكاساتها التي ترهق المقيمين، أنهكت في الوقت نفسه المهاجرين اللبنانيين الذين يفوق عددهم عدد الباقين في وطنهم، وهؤلاء ينقسمون إلى فئتين، فئة تضم عشرات الألوف من الكادرات العاملة مؤقتاً في دول الخليج العربي وأوروبا خصوصاً، وفئة يبلغ تعدادها الملايين في أميركا شمالاً وجنوباً، وقد استقرت هناك ونالت جنسية بلد المهجر، ومنهم عشرات الألوف من أبناء الطائفة الشيعية الذين يقيمون في الولايات المتحدة ويعملون في مؤسساتها وأجهزتها.
إن هؤلاء المهاجرين يقدمون مساهمة كبرى في إنعاش اقتصاد بلدهم عبر المشاريع الإعمارية والاقتصادية والاجتماعية التي ينفذونها فيه، وعبر التحويلات المالية التي كانت تتراوح بين ستة وثمانية مليارات دولار سنوياً، كذلك عبر إيداعهم ثرواتهم في بنوكه، لكن سياسة حكامهم وجشعهم جعلت تلك الودائع أوراقاً غير قابلة للصرف، ولم يتبق لهم سوى دعم عائلاتهم عبر التحويلات السريعة بالعملة الصعبة التي تشكل اليوم مورداً أساسياً من موارد البنك المركزي المترنح من الدولار وغيره من العملات.
تبدأ الحلول لمشكلات لبنان من استيعاب هذه الصورة كاملةً. وهذه مهمة الحكومة التي قامت في أعقاب انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول). والحكومة تعي ذلك من دون شك، لكن ظروف تشكيلها برعاية تحالف القوى الذي يقوده حزب الله جعلتها تترنح في اتخاذ القرارات الإنقاذية المناسبة. فالحزب الذي يتعرض لعقوبات أميركية وأوروبية وعربية يتصرف وكأن لبنان كبلد يتعرض لهذه العقوبات. والواقع أن لبنان ليس في هذه الوضعية. فهو ليس سوريا ولا إيران ولا حتى روسيا... وعندما يتصرف حزب الله وكأنه يختصر لبنان بتنظيمه فإنه يجعل البلد وشعبه رهينة لسياسة ستقود إلى دعوات موهومة للالتحاق كلياً بمحور المعاناة، لا الممانعة، الذي يمتد بحسب رؤية الحزب المذكور من سوريا إلى العراق وإيران وصولاً إلى الصين ومروراً بروسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحال أن البنك المركزي السوري اتخذ في 2011، رداً على العقوبات الأوروبية ضد النظام السوري، قراراً بتنويع سلة عملاته وإدخال اليوان الصيني والروبل الروسي إلى سوق الصرف، لكن سوريا شهدت بعد تسع سنوات تهافتاً على الدولار وانهياراً لليرتها استوجب إصدار قرارات بالحبس في حق من يطلب الدولار. وفي إيران التي تتهافت على الدولار عبر العراق الذي أطلق عليه اسم "صرّاف إيران"، انهارت العملة الوطنية إلى ما يزيد على 192 ألف تومان مقابل الدولار الواحد.
إلى ذلك، ينهار الاقتصاد في البلدين ويزداد الفقر والجوع. فلا استيراد للمواد الغذائية والأولية إلا بالدولار، ولا إعمار إلا به، والشركات الروسية التي نالت امتيازات الفوسفات في تدمر تجد نفسها عاجزة عن البدء بالعمل بسبب اضطرارها لدفع متوجباتها بالعملة الصعبة.
ليس لبنان في الموقع الذي تعانيه الدول المذكورة. هو يعاني نتائج إدارة سياسية اقتصادية داخلية وتداعيات الإصرار على ربطه سياسياً بتلك الدول وما تمثله. ليس لبنان محاصراً ولا مُعاقباً، ولا يمنعه أحد من إرساء أوثق العلاقات بدول أُخرى، بما فيها الصين وروسيا. وليست علاقاته مقطوعة بسوريا أو العراق أو إيران، لكن هذه الدول الثلاث الأخيرة غير قادرة على تعويض لبنان خسائر فساد إدارته ولا محاولات قطع علاقاته مع العالم.
تقيم الصين علاقات وثيقة تناسب مصالحها مع مختلف دول العالم، وشريكها الأول هو الولايات المتحدة الأميركية. ومع العالم العربي بلغت تبادلاتها التجارية في 2018 نحو 225 مليار دولار، فيما بلغت ضعف هذا الرقم مع الولايات المتحدة. والصين التي يبشر أصحاب الاتجاه شرقاً من اللبنانيين، تقيم أمتن العلاقات مع إسرائيل التي فاق التبادل التجاري معها 12 مليار دولار سنوياً، والاستثمارات الصينية فيها 10 مليارات. لقد تحولت الصين إلى ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد أميركا، وهي في الوقت عينه خفَّضت وارداتها النفطية من إيران بنسبة 89 في المئة لتتحول المملكة العربية السعودية إلى المورِّد الأول للنفط إلى بكين متخطية الشريك الروسي بأشواط.
يحتاج لبنان، وهو المنفتح على العالم، إلى مواصلة انفتاحه من دون عُقد. لكنه يحتاج أولاً إلى إعادة بناء وتصحيح بنيته الداخلية، وهو ما لن يحصل مع استمرار الفاسدين الطائفيين في إدارة شؤونه، ومع تحكم أيديولوجيا المصالح الإيرانية في توجيه سياساته. ولن يسقط الرهان على استمرار روحية التصحيح التي نشأت مع انتفاضة أكتوبر، فهي وحدها أداة الضغط لمنع السقوط في الفوضى والفشل، أو في الارتهان.