Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفرد ودوره في تحول المجتمعات

هيغل يرى أن الأفراد المميزين، ذوي الطموحات والرؤى الشاملة، ما هم في النهاية إلا أدوات للمطلق، أو العقل المطلق

نابليون بونابرت وفق الفلسفة الهيغلية تجسدٌ شخصيّ للمطلق في التاريخ (أ.ف.ب)

عندما كانت الجحافل الفرنسية تجتاح الأراضي الألمانية في بداية القرن التاسع عشر بقيادة نابليون بونابرت (1769 – 1821)، كان الفيلسوف الألماني الأشهر فريدريك هيغل (1770 – 1831)، متحمّساً أشدّ الحماسة لهذا الاجتياح، بل لكلّ غزوات وفتوحات نابليون الأوروبية، فكيف نفسّر مثلَ هذا الموقف من فيلسوف بقامة هيغل كان دائماً ممجداً للدولة البروسية إلى درجة التقديس؟

قد يُستهجن مثل هذا الموقف في الظروف العادية، بل قد يوصم بالخيانة، انطلاقاً من نظرة آنية تحكمها الثقافة السائدة وأحكامها، ولكنه في أعماقه يتّسق كلّ الاتساق مع فلسفة هيغل في التاريخ. فقد يكون نابوليون بونابرت مثلَ أيّ غازٍ عرفه التاريخ، ساعياً إلى مجدٍ شخصيٍ يخلّده التاريخ، وخلودٍ زمني يسجله هذا التاريخ، ولكنه وفق الفلسفة الهيغلية تجسدٌ شخصيّ للمطلق في التاريخ، حتى وهو لا يدرك ذلك. نعم كان نابوليون من كبار الغزاة والفاتحين في التاريخ، مدفوعاً ببواعثَ شخصيةٍ في المقام الأول، ولكنه في خضمّ ذلك كلّه نقل معه مبادئ الثورة الفرنسية (1789)، من حرية ومساواة وأخاء، إلى كلّ جزءٍ في أوروبا ومن ثم العالم كله، وهذا ما يسميه هيغل "مكر التاريخ"، أو مكر المطلق الذي يحقّق ذاته من خلال أشخاصٍ ذويّ ميزاتٍ معينة، وفي ظروف معينة بحيث تتمازج هذه الظروف مع طموحات الفرد المميّز، ليحقّق المطلقُ هدفه في التجسد تاريخياً، من دون أدنى وعيٍ من هذا الفرد بالمهمة الحقيقية التي يحقّقها.

إيجازٌ لما هو موجز أصلاً، فإن هيغل يرى أن الأفراد المميزين، ذوي الطموحات والرؤى الشاملة، ما هم في النهاية إلا أدواتٌ للمطلق، أو العقل المطلقِ، لتحقيق تجسّده في التاريخ، فهم "الفرد الضرورة" في هذه المرحلة أو تلك من تاريخ البشرية، كذلك كان نابوليون، ومارتن لوثر (1483 – 1546)، وغيرهما من عظماء التاريخ.

يشاطرُ هذه النظرةَ إلى دور الفرد في التاريخ، الفيلسوف الأسكوتلندي توماس كارليل (1795 – 1881)، وإن اختلف معه في الفلسفة التي تكمن وراء ذلك. ففي كتابه الشهير الذي ترجم إلى العربية بعنوان "الأبطال"، أورد كارليل عدداً من الأسماء البارزة في التاريخ، من ضمنهم رسولنا الكريم محمد بن عبد الله (ص) بصفته البطل في صورة نبيّ، وكل واحد من هذه الأسماء يظهر بصورة معينة، فشكسبير ودانتي يظهران بصورة البطل الأديب مثلاً، وعلى ذلك يمكن القياس في رأي كارليل، فإن التاريخ لا يحركه إلا مثل هؤلاء الأبطال، وإنّ المجتمعات لا تتغير إلا بوجود مثل هؤلاء الأفراد المتميزين، ذوي الرؤية والطموحات القادرة على تحقيق مثل تلك الرؤية. وعلى عكس هيغل، فإن الفرد البطل هنا واعٍ تماماً بمهمته في الحياة، وليس مجرد أداة لعقل مطلقٍ أو غيره، بل هو بكل مميزاته الذاتية. فرسولنا الكريم (ص)، وحين دراسة سيرته الذاتية ومميزاته الفريدة، كان لا بد أن يظهر على مسرح التاريخ، حتى لو لم يكرمْه الله برسالته السماوية، وهو ذات ما أقرّه توماس كارليل، وما شرحه باستفاضة، عباس محمود العقاد (1889 – 1964)، في كتابَيه "عبقرية محمد"، و "مطلع النور". وفي سلسلة "العبقريات" نجد أن العقاد هو أحد القائلين بمحورية دور الفرد المتميّز (البطل) في التاريخ، فكيف يمكن مثلاً أن نتصوّر مسار تاريخ المسلمين من دون أن يفرضَ معاوية بن ابي سفيان اسمه على هذا المسار، وعلى ذلك يمكن ضرب أمثلة كثيرة من هذا العالم.

فكيف كان من الممكن تصورُ مصيرَ الرأسمالية الأميركية، ومعها الرأسمالية العالمية بالطبع، لولا ظهور رجل كفرانكلين روزفلت (1882 – 1945)، الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة. وكيف كان سيكون مصير الهند من دون المهاتما غاندي (1869 – 1948)، أو اتجاه الدولة في الصين بغياب شخصية مثل ماو تسي تونغ (1893 – 1976). بل وكيف كان سيكون الوضع في جنوب أفريقيا في غياب حكمة رجل مثل نيلسون مانديلا (1918 – 2013)، أصبح هو وجنوب أفريقيا كياناً واحداً. وحين نلتفت إلى شأننا المحلي، فإنه لا يمكننا تصوّر وجود كيانٍ سياسيّ واقتصاديّ مؤثرٍ في عالم اليوم مثل المملكة العربية السعودية، من دون أن يفرض نفسه على الذهن رجل مثل عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، الذي حقّق المستحيل في أوائل القرن العشرين، حين جمع شتات معظم أرجاء شبه جزيرة العرب في كيان واحد. نعم، للفرد المتميز، أو "البطل"، وفق وصف كارليل، تأثير في مسار التاريخ، وتحوّل المجتمعات، وربما كل التأثير في حالات كثيرة. ربما اقتصرت أمثلتنا هنا على زعماء سياسيين، ولكن "البطل" ليس بالضرورة أن يكون سياسياً، فرجل مثل يوهان غوتنبرغ (1398 – 1468)، قلبَ العالمَ رأساً على عقب حين اخترع الطباعة، وهو ذات ما فعله كوبرنيكوس (1473 – 1543)، حين أكد مركزية الشمس في مقابل النظرة الكهنوتية التي كانت تقول بمركزية الأرض، ولا يفوتنا في هذا المجال ذكر إينشتاين ونيوتن وغاليليو، وغيرهم من العلماء الذين غيّروا مجرى الحياة وقلبوا أسساً كان يعتقد بأنها ثابتة ولا مجال لتغييرها.

ولكن أصحابَ "الحتمية التاريخية" من ماركسيين وغيرهم، لا يرون مثل هذا الرأي في مركزية دور الفرد في التاريخ والمجتمع، فهم يرون أن الفرد، أو "البطل" هو نتاج حتميّ لظروف البيئة السياسية والاجتماعية وتقلباتها، فلو لم يظهر نابوليون خلال السنوات العشر التي أعقبت الثورة الفرنسية، فإنه من المحتّم أن يظهر شخص آخر، وليس نابوليون بالذات. على عكس ما يقوله كارليل من أن نابوليون برز على مسرح الأحداث بصفاتٍ وميّزاتٍ خاصةٍ به بالذات. صحيح أن البيئة أو الظروف التاريخية والاجتماعية، تقف وراء التحوّلات الكبرى في التاريخ، وأبرز مثال على ذلك هو الواقع الفرنسيّ قبل الثورة الكبرى، أو الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ الروسيّ قبل ثورة 1917، ولكن البيئة وحدها لا تقود نفسها، فلا بد أن يكون هنالك نوع من الرؤية للمقبل من الأيام، ولا يملك هذه الرؤية غالياً، وفي بداية الأحداث، إلا فرد ذو مزايا خاصة، ولعل نظرةً إلى كتاب العقاد "مطلع النور"، تبيّن كيف كانت جزيرة العرب بوجه خاص، تصرخ من أجل التحوّل والتغيير، وتبحث عمن يعبّر عن هذا التغيير ويقوده، فكانت ضرورة أن يظهر النبيّ الأميّ في خاتمة المطاف. البيئة وحدها، حتى وإن كانت جاهزة للتغيير، قد تنقلب إلى كارثة أو فناء أممٍ حيةٍ حين يغيب "البطل" عن مسرح الأحداث ونفس الشيء يمكن أن يقال حين تتحقق مزايا البطل في شخص ما، ولكن لا تكون الظروف مهيأة للتحول والتغيير، فيقال عنه لاحقاً إنه رجل سبق زمانه.

إذا، فمعادلة التغيير الاجتماعيّ، والتحوّل بصفة عامة، هما تضافر البيئة المتعطشة للتغيير، مع وجود فردٍ متميزٍ يقود هذا التغيير وفق رؤية واضحة، وقد لا تكون واضحةً تماماً بالنسبة إليهم، لو أخذنا بفلسفة هيغل ومفهوم "مكر التاريخ"، ولكنَّ المهمّ هو وجودُ الفرد المناسب في الظرفِ المناسبِ في الزمن المناسب، هذا ويطول الحديثُ في هذا الشأنِ، ولعلّ للكاتب عودةً ثانيةً إليه.

 

المزيد من آراء