Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حقيقة "تحرير" جنوب لبنان ليست رواية "حزب الله"

الأسد وعد بالسلام ونكث، العرب ضغطوا على أميركا وإسرائيل انسحبت و"حزب الله" انتقم

الحدود الجنوبية بين لبنان وإسرائيل (أ.ف.ب)

في يوم 25 مايو (أيار) 2000، انسحبت إسرائيل من الشريط الحدودي في جنوب لبنان، وأهم من ذلك، فكّكت جيش لبنان الجنوبي وسمحت لأعضائه باللجوء إليها. وتتنافى رواية "حزب الله"، بأنه هو الذي "حرّر" الجنوب والبقاع الغربي من إسرائيل مع الواقع، فالحزب لم "يحرّر" شيئاً إلا بعد قيام إسرائيل بالانسحاب من منطقة معينة، لأسباب دولية وداخلية. وعلى أثر هذه الانسحابات المتتالية منذ 1985، تقدمت الميليشيا الإيرانية (في ولائها) وسيطرت واحتفلت بـ"تحرير". وهكذا حتى الحدود. كيف نُثبت ذلك؟ من أبسط الأمور.

إسرائيل انسحبت من مناطق عديدة بين 1983 و1985، لأن الحكومة اللبنانية لم تتمكن من إنجاز اتفاق سلام ولأسباب أخرى. ولكن عندما توقفت إسرائيل عن الانسحاب ورسمت خطوط تمركز جيش لبنان الجنوبي في جزين والبقاع الغربي، فجأة توقف "تحرير" الحزب، فلم يحرّر سنتيمتراً واحداً خلال 14 سنة، وفشلت قواته بكل هجماتها، ليس فقط على الإسرائيليين بل وبخاصة على الجيش الجنوبي. وجاء عام 1999 فخرجت إسرائيل بشكل مباغت من جزين. وهّب "حزب الله" بين ليلة وضحاها ليعلن تحريره جزين! لم يحرّر شيئاً بالقوة العسكرية، بل كان يهضم مناطق تتخلى عنها إسرائيل، وتسمح له الحكومة اللبنانية بقرار سوري أن يستعرض عضلاته فيها.

ولم تتمكن الميليشيا الخمينية من "تحرير" بقية الشريط بعد جزين، على الرغم من هجمات استعراضية، أفشلها الجيش الجنوبي الواحدة بعد الأخرى حتى يوم 25 مايو 2000. فاجأت إسرائيل الجميع بمن فيهم الجيش الجنوبي بأمر انسحاب سريع وهدّدت الجنوبيين بإقفال الحدود عليهم ما لم ينسحبوا أيضاً. فهرع أفراد جيش لبنان الجنوبي إلى إخلاء مواقعهم وإجلاء عائلاتهم إلى ما وراء الحدود، بينما كان زعيم الميليشيا الخمينية يهدّد "بذبح الجنوبيين في فراشهم ما لم يتركوا أرضهم له". وبعد أن انسحب آخر جندي جنوبي بعد منتصف الليل، وبعد ساعات، هرولت جماعات الحزب وحلفاؤها لدخول "الأراضي المفتوحة" –هناك رواية متداولة تفيد بأن مسؤولاً كبيراً في أحد الأحزاب الحليفة لـ"حزب الله" بقي يفاوض أحد قادة جيش لبنان الجنوبي طوال يومّي 21 و22 من مايو للانقلاب وتسليم منطقته لإظهار ما يحدث على أنه تمّ تحت ضربات الحزب ولكن طلبه جوبه بالرفض- ومنذ ذلك اليوم سيطر المحور الإيراني على كل الأراضي اللبنانية، بعدما كان نظام الأسد قد اجتاح وسط لبنان في13 أكتوبر (تشرين الأول) 1990، وسيطر على الجيش، والرئاسة، وفكّك القوات اللبنانية وقمعها، ولجم كل الأحزاب والسياسيين، بمن فيهم حلفاؤه السابقون في الحركة الوطنية وحتى الفلسطينيين.

25 مايو 2000 كان يوم خروج إسرائيل من لبنان وسقوط آخر قوة ميدانية تقاوم إيران والأسد على الأراضي اللبنانية، أي جيش لبنان الجنوبي، وكان قد تحالف مع إسرائيل لأن العالم قد تخلى عنه. ما جرى، بنتائجه، لم يكن لمصلحة لبنان الحر، بل في النهاية لمصلحة نظامَي الأسد وإيران، فبعد اجتياح قوات الأسد المناطق الحرة الُمقاِومة للنظام السوري و"حزب الله" في 1990، سقطت الدولة اللبنانية كلياً بين يدَي المحور الإيراني السوري، وبالتالي انتفت قدرة لبنان الحرّ على أن يسترجع الجنوب من إسرائيل من دون أن يسقط في يد إيران. لأن لبنان الحرّ قد سقط بين يدَي الأسد في 1990، لم تعد هناك أي إمكانية لإخراج إسرائيل من دون إدخال إيران. بالتالي جهّز "حزب الله" نفسه لعشر سنوات ما بين 1990 و2000 لكي ينقضّ على الجنوب ويصل إلى الحدود الدولية مع إسرائيل، فور انسحابها، ويقدّم هذه الساحة إلى طهران كورقة ضغط إقليمية ودولية.

في نهاية التسعينيات عمل فريق من الاغتراب اللبناني، وهو الفريق نفسه الذي أنجز القرار 1559 على إخراج قوات الأسد من لبنان عام 2004، على حلّ يقضي بمبادلة خروج إسرائيل من الجنوب بخروج سوريا البعث من سائر لبنان، وذلك بموجب القرار 520 الصادر عام 1982. وقد طرحتُ هكذا مشروع على الأمم المتحدة وإدارة بيل كلينتون وفرنسا بين العامين 1998 و2000، وملخّصه أن يتم انسحاب كل القوات الأجنبية، بما فيها سوريا وإسرائيل، وانتشار قوات دولية في كل لبنان، وإعادة تأهيل الجيش اللبناني ونشره على الأراضي كافة، ونزع سلاح الميليشيات المتبقية، أي "حزب الله" وجيش لبنان الجنوبي، وحلّها كما حدث عام 1991 مع القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي والتنظيمات المسلحة الأخرى.

وكانت ورقة الشريط الحدودي آخر ورقة لتنفيذ القرار 520 وإنقاذ لبنان من السقوط النهائي في يدَي طهران ودمشق. إلا أن هذه الجهود فشلت، لأن بيروت كانت قد سقطت قبل سنوات تحت المحور الإيراني السوري، ولم تعد قادرة على التحرك خارج قرار الأسد و"حزب الله". ولأن إدارة كلينتون كانت ترّكز على حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتم إقناعها بأن التراجع الإسرائيلي الأحادي في لبنان سيقنع إيران وسوريا بمباركة المفاوضات مع الفلسطينيين. إلا أن إسرائيل انسحبت، وتمّ حل الجيش الجنوبي، وسيطر "حزب الله" على المنطقة، ولم يسلّم سلاحه إلى الجيش، ولم تخرج القوات السورية، ودخل الحرس الثوري، وتمّ تنظيم قواعد للمؤيدين لإيران في اليمن والعراق والبحرين على الأراضي اللبنانية. فأضحى ما سُمي التحرير و"الانتقام من عملائه" تغطية لابتلاع لبنان وجعله منصّة للانقضاض على العالم العربي.

فكيف حصل ذلك؟ إنها سلسلة طويلة من الأخطاء اللبنانية والتحركات الدبلوماسية الدولية والنوايا العربية الحسنة التي قابلتها نوايا إيرانية خبيثة. أولاً، فشل الحكم في لبنان بعد اغتيال بشير الجميل في أن يستفيد من الدعم العربي، والأميركي والدولي، لنشر الجيش وتنفيذ اتفاق 17 مايو على غرار مصر والأردن. فتمّت خسارة الجبل وبيروت والبقاع لمصلحة "حزب الله" أو حلفاء الأسد. مما أدى إلى عودة القوات السورية والحزب للسيطرة على جزء من العاصمة ومناطق واسعة والادعاء بتحرير لبنان من إسرائيل، بينما كانوا يضربون كل الطوائف اللبنانية الإسلامية والمسيحية.

ثانياً، الحرب الأهلية المدمّرة والانتحارية في المنطقة الشرقية عام 1990، التي قدّمت الشطر الآخر من بيروت إلى الأسد. فلو لم تسقط بيروت الشرقية بيد قوات النظام السوري، لما تحرّك حافظ الأسد الحذق والمتأني باتجاه الجنوب. إذ إنه كان قادراً على أن يدفع بـ"حزب الله" ليقصف ويقوم بعمليات، بينما يضغط هو على العرب ليضغطوا على إسرائيل لتنسحب. ولكنه كان خائفاً من أن تنفجر المنطقة الحرة بجيشها وقواتها اللبنانية على خاصرته. لذلك انتظر سقوط بيروت أولاً ليهضمها، وينتظر ظرفاً تاريخياً آخر لينقضّ على الشريط الحدودي.

ثالثاً، جاء هذا الظرف مع انتصار اليسار الإسرائيلي في الانتخابات، والتزام إيهود باراك بالانسحاب من جنوب لبنان. وكان آخر عام للرئيس كلينتون وكان مرشح الديمقراطيين بحاجة إلى انتصار في السياسة الخارجية ليتم توظيفه في الانتخابات ضد جورج بوش في نوفمبر (تشرين الثاني). فاغتنم الأسد الفرصة الهائلة وعرض أن تنسحب إسرائيل من الشريط الحدودي كمدخل لخروج كل القوات بما فيها الجيش السوري، على أساس القرار 520. إلا أنه شدّد على إزالة الجيش الجنوبي من الوجود بدلاً من استيعابه في الجيش اللبناني، كما كان ذلك متوقعاً من ميليشيا "حزب الله". إذ إن حليف إيران كان يخطط سراً للاستفادة من دعم عربي، والقضاء على الجنوبي وإبقاء الحزب وإدخال الحرس الثوري، أي خداع أميركا وإسرائيل واستعمال الأخوة العربية والسيطرة التامة على لبنان. فوعدُ النظام السوري والحكم في لبنان و"حزب الله" للدول العربية بأن إخراج إسرائيل وتدمير الجيش الجنوبي سيكون مدخلاً للسلام في المنطقة وعلاقات جديدة مع طهران. فوضعت السعودية والدول الأخرى ثقلها في واشنطن لإقناع إدارة كلينتون بالضغط على إسرائيل للانسحاب والتخلّي عن الجيش الجنوبي مقابل ضمان عدم تعكير السوريين والإيرانيين بدء عملية السلام، علماً أن هذا الجيش الصغير كان القوة الوحيدة على الأرض اللبنانية التي وقفت بوجه الميليشيا الإيرانية لعشرين عاماً.

من دفع ثمن انسحاب مايو 2000؟

أولاً، أميركا لأن قرار كلينتون وفّر قدرة لـ"حزب الله" استعملها ضد الأميركيين لعشرين عاماً في العراق والعالم، وأيضاً الدول العربية التي صّدقت وعود الأسد لتتفاجأ باهدائه لبنان إلى ميليشيا ضربت العرب في طول المنطقة وعرضها لعقود، وإسرائيل التي أدى قرار رئيس وزرائها إيهود باراك تفكيك الجيش الجنوبي بدلاً من أن يتركه يدافع عن أرضه وطوائفه السنية والدرزية والشيعية والمسيحية، فأوصل "حزب الله" إلى الحدود وأعطى هدية لإيران إلى 20 عاماً إضافياً. وأخيراً لبنان، الذي فقد ورقة أساسية لفرض حلّ دوليّ لسحب كل القوات الأجنبية وحلّ الميليشيات المتبقية بعد عام 2000. ولولا الجهد الكبير للمغتربين اللبنانيين في 2004 مع إدارة بوش لما انسحب الأسد من لبنان عام 2005. فلو تمّ استيعاب عناصر الجيش الجنوبي في الجيش اللبناني لكان اكتسب قدرة أكبر، وبات للحكومة سيطرة فعلية على الحدود، وتحرّرت من الميليشيا الإيرانية وأنهت العمليات والاختراقات الإسرائيلية في لبنان، كما حدث مع مصر والأردن. فدخل لبنان منظومة التحالف العربي بدلاً من المحور الإيراني أو أعلن حياداً إيجابياً في المنطقة. لبنان خسر نفسه عندما اجتاحه حافظ الأسد وعندما فقدت حكوماته قدرتها على استيعاب مواطنيها، بمن فيهم الجنوبيون الذين قاوموا "حزب الله" وإيران دفاعاً عن قراهم وعن السيادة اللبنانية.

لكن الحقيقة التاريخية كانت أن اللبنانيين أخفقوا بخلافاتهم في مقاومة نظام الأسد، وإن من ضغط على أميركا لخروج إسرائيل كان العرب بناءً على وعد سلام للفلسطينيين، ونكث الأسد، وربح "حزب الله" وانتقم وكتب التاريخ على ذوقه.

المزيد من آراء