يخطو مستثمرون جزائريون "جُدد" طريقهم ببطء شديد إلى صدارة المشهد الاقتصادي بعد "صدمة" عايشها الرأي العام تتعلق بممارسات "مافيوية" لعشرات رجال الأعمال ممَن حقق معهم القضاء ومن ثم سجنهم.
وتبدو آفاق الاستثمار الجديدة غير واضحة بعد، ما يعكس عدم وضوح الرؤية لدى رئاسة الجمهورية تجاه هذا الملف.
في المقابل، يغيب وزير الصناعة فرحات أيت علي عن المشهد العام مقارنةً بباقي وزراء الحكومة منذ تعيينهم في الجهاز التنفيذي مطلع العام الحالي، ويفسر محيطه هذا "الغياب"، بحجم التركة الموروثة في قطاع الاستثمار عن الحكومات السابقة، واستمرار الوزارة في البحث عن "ثغرات" مالية في عشرات القطاعات.
واللافت أن الحكومة أعدت بدائل لبعض القطاعات الاستثمارية التي شابها "الغموض" و"الفساد" في فترة النظام السابق، لإطلاقها مجدداً، في ما يبدو الاستثناء الوحيد، في ملف تركيب السيارات الذي قدمت الحكومة بخصوصه "نصف بديل" وذلك عبر إلغاء النظام الجبائي التفضيلي مع الإبقاء على القطاع (جميع المستثمرين فيه مسجونون الآن) مقابل فتح المجال أمام المستوردين لاستيراد سيارات جديدة بعدما منع ذلك منذ عام 2014.
التخلص من استثمار "القراصنة"
وعلّق الباحث الاقتصادي محفوظ كاوبي على الفترة الأولى لحكم الرئيس عبد المجيد تبون وعلاقتها بالاستثمار قائلاً إن "بروز موجة جديدة من رجال الأعمال بالمواصفات التقنية الناجعة ليس بالأمر السهل، فلا يمكن نشوء طبقة جديدة من العدم، لأن مفهوم رجل الأعمال الحقيقي هو مجموعة من التراكمات، تراكم في التجارب وعمليات التحكم في التسيير الاقتصادي، تسيير الأموال والتحكم في تقنية مجال النشاط".
ويشرح كاوبي في حديث لـ"اندبندنت عربية" مخلفات المرحلة الماضية على الوضع الراهن. وقال "أنشأت المرحلة السياسية الماضية رجال أعمال أصفهم وفق المنطق الاقتصادي السابق بمجموعة من القراصنة، أي أنهم بدل إنتاج الثروة تحوّلوا إلى مستهلكين للثروة في منظومة قيمية تمتاز بالريع، كان هناك تحالف بين العصب النافذة مالياً وسياسياً، عن طريق علاقات بين العصب المالية وأصحاب القرار والآمرين بالصرف في أسوأ مشهد لتحالف المال الوسخ والرداءة السياسية".
الانتقال إلى نسق جديد
ورأى أستاذ الاقتصاد أنه "على الرغم من وجود مؤشرات إيجابية على مستوى الخطاب السياسي، فإن الأمور العملية لم تظهر بعد لأنها تؤمن وتعترف بالإجراءات فقط، بعد ستة أشهر من تولي الإدارة الجديدة الحكم في الجزائر لم تفعّل بعد الإجراءات التنافسية في سوق الاستثمار العام والخاص، ما زلنا في نسق كلامي يُحوّل المنظومة المستهلكة للثروة إلى منظومة تعتمد النجاعة سواء المتوجهة إلى الخارج أو في القطاع المحلي".
أما عن المرحلة اللاحقة، قال كاوبي "العبور من نسق إلى آخر جديد يفترض تغييراً في رؤية منظومة الحكم لملف الاستثمار، عبر عملية تنظيم جديدة مبنية على إجراءات ومنطق النجاعة في تسيير المشاريع".
أين هم "النزهاء"؟
على أرض الواقع، يتكتم رجال أعمال عن نواياهم تجاه الوضع الاقتصادي في البلاد، ربما حتى تتضح الصورة بشكل أكبر. ففي وقت سابق عُرف عن الرئيس الجزائري الحالي بأنه "خصم المستثمرين ورجال المال" على خلفية صراعات شهيرة مع عدد من رجال المال في صيف عام 2017 حين كان رئيساً للحكومة انتهت إلى إقالته، لكن تبون في نسخته كرئيس للدولة، حاول تدريجياً ترسيخ فكرة ترحيبه بـ"رجال الأعمال النزهاء" من دون أن يظهر لهم أثراً في الساحة الاقتصادية بعد.
من جهة ثانية، أخّر البحث عن منفذ تجاه عالم الأعمال ضمن إدارة جديدة ترفع شعار التشدد ضد الفساد، بروز طبقة مستثمرين جدد، لذلك يحرص بعض رجال الأعمال على طرق بوابة التغيير عبر دستور الدولة أولاً، وتراهم اليوم يقدمون مقترحات عبر "روح القوانين" قد تؤسس لمفهوم جديد لصفة رجل الأعمال بعيداً من دولة الريع.
تجاهر سيدة الأعمال سعيدة نغزة، وهي رئيسة "الكونفدرالية العامة للمؤسسات الجزائرية"، بموقف يساند سياسة تبون إلى أبعد الحدود، فهي بدورها تقدم نفسها ضحيةً للمحيط المالي للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ومع ذلك تقترح ولوج نظام استثماري جديد بضمانات في دستور البلاد.
وتوضح أنه يجب "العمل على تسهيلات جديدة للمؤسسات الاقتصادية وحمايتها من الاعتداءات والإقصاء من الصفقات والتهميش، وتسهيل الاستثمار وتجريم إقصاء الخواص من المشاريع العمومية والمساواة بين المؤسستين العامة والمؤسسة ومرونة الإدارة لإعطاء حصانة اقتصادية لهذه المؤسسات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شركاء جدد في "الثلاثية"
يشكل لقاء "الثلاثية"، وهو تقليد جزائري ما بين الحكومة، والنقابات، ورجال الأعمال، ربما فرصة لاكتشاف نوايا تبون.
ومعلوم أن الرئيس الجزائري كلّف الوزير الأول عبد العزيز جراد تحضير لقاء الثلاثية قريباً، وحين تُكشف قائمة رجال الأعمال المعنيين باللقاء، يمكن تصور المعايير التي تعتمدها اليوم رئاسة الجمهورية في اختيار شركائها في القطاع الاقتصادي الخاص.
في المقابل، تنتقص أطراف سياسية من مساعي "الإدارة السياسية" الجديدة بناء على معطيات قضائية أدت إلى الإفراج المؤقت عن رجلي أعمال بارزين، عبد المالك بن حمادي والعيد بن عمر، في انتظار محاكمتهما لاحقاً.
وانتقد حزب العمال الاشتراكي هذه التطورات، فالنظام وفقاً للحزب "يُفرج عن الأوليغارشيين الذين تسببوا في نهب الأموال العامة والعقارات والاستحواذ على المؤسسات العامة، مع نهب ممنهج تم باسم الخصخصة".
ويعتبر حزب العمال أن "إطلاق سراح الأوليغارشيين، إنما يدل على إعادة تشكل تحالفات جديدة مع الباترونا (منظمات رجال الأعمال) والبقاء على نفس النهج الليبرالي والقمعي، وهذا على حساب مصالح الشعب والاقتصاد الوطني".
وعلى العكس تماماً، يوضح المستشار الاقتصادي في منتدى رؤساء المؤسسات، عبد القادر هناوي لـ "اندبندت عربية"، أن "ثمة مؤشرات تعطي انطباعاً أن الجهاز التنفيذي يرفع اليد عن الملفات التي يحقق فيها القضاء، لذلك تتعامل العدالة بحرية تامة في الفترة الأخيرة مع قضايا رجال الأعمال المسجونين، وهي تقوم بفرز ملفات الفساد من دون ضغط سياسي أو إعلامي".