من الطبيعي أن تتحمّل الدول والحكومات مهمة إدارة العمليات المتعلقة بفيروس كورونا، وأن يتحمّلوا أيضاً مسؤولياتهم بشأن اتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة من أجل التصدي إلى الأضرار النفسية والاقتصادية الناجمة عن الفيروس. وتأخّرت تركيا، مثل بقية دول العالم، في التنبّه إلى خطورة الوباء، لذلك فإني لا أرى من الإنصاف إلقاء اللائمة بأكملها على حكومة العدالة والتنمية، في حين أنّ كبرى دول العالم أصبحت مغلوبة أمام هذا الفيروس الفتّاك.
لكن، المشكلة هي أن هذه الدول سرعان ما استجمعت قواها للتصدي إلى المرض، بعدما تعرّفت إلى حجم الأزمة، ووضعت خططاً للتدخل السريع. وإلى جانب التدابير العامة، بدأت الدول المتقدمة تُخصِّص معونات مالية سخية، وتعلن حزم مساعدات اقتصادية واجتماعية، لتخفيف الأعباء عن مواطنيها المتضررين بسبب الحجر الصحي.
على سبيل المثال، كانت بريطانيا في البداية متساهلة تجاه الفيروس، وقد كلّفها هذا الموقف فاتورة باهظة، ولا تزال تدفع الثمن، لكنها أعلنت أخيراً مساعدات اقتصادية أراحت المواطنين ذوي الدخل المنخفض والشركات الصغيرة والمتوسطة. ووفقاً لمعلوماتي المؤكّدة بدأت حكومة بوريس جونسون تنفيذ قرار إيصال المساعدات الموعودة إلى الأفراد والمؤسسات، اعتباراً من هذا الشهر.
أمّا بالنسبة إلى تركيا، فحققت حكومة حزب العدالة والتنمية نجاحاً نسبياً في القرارات والتدابير التي اتخذتها في ما يتعلق بالمجال الصحي، لكنّها أخفقت بشكل واضح في دعم المواطنين بمساعدات اقتصادية، تخفف من أعبائهم المالية، في حين أن رؤساء البلديات المحسوبين على المعارضة انتهزوا هذه الفرصة، للوصول إلى قلوب المواطنين، وكسب عواطفهم الإيجابية.
ومن المعلوم، أن رجب طيب أردوغان وحزبه فشلوا في سباق انتخابات البلدية التي أجريت في 2019. إذ إنهم خسروا أمام حزب الشعب الجمهوري أربع بلديات مهمة كانوا يسيطرون عليها منذ 26 عاماً، وعلى رأسها اسطنبول العاصمة الاقتصادية والمالية التي لا يختلف اثنان على أهميتها الاستراتيجية في عدة مجالات، تليها أنقرة العاصمة السياسية، إضافة إلى محافظة أنطاليا التي تعتبر العاصمة السياحية والقلب النابض للسياحة التركية، وكذلك محافظة أضنة مركز الزراعة في البلاد. كما أنّ حزب الشعب الجمهوري استطاع الحفاظ على بلدية أسكي شهر العاصمة الثقافية.
وبعد هذه الهزيمة لم تستطع حكومة حزب العدالة والتنمية أن تتعافى من مضاعفاتها، وبدأت تتخبط في مواجهة رؤساء البلدية الجدد، الذين بدؤوا يحققون نجاحات باهرة، رغم كل العراقيل التي تضعها الحكومة المركزية أمامهم، لتشويه سمعتهم والتقليل من شأنهم في أعين المواطنين.
فعرقل الرئيس أردوغان حملات التبرعات التي أطلقها عمدة اسطنبول (أكرم إمام أوغلو) وعمدة أنقرة (منصور ياواش) لمساعدة المواطنين المتضررين بسبب الفيروس، ولمّا رأى أنّ المواطنين يشاركون بهذه الحملات، ويدعمونها أكثر من نظيرتها الحكومية المركزية، تدخَّل فيها ومنَعَها بأساليب غير ديمقراطية، واصفاً إياهم بتشكيل "دولة موازية"، وبهذه الطريقة مَنع وصول تلك المساعدات إلى ذوي الدخل المحدود من المواطنين المتضررين من كورونا.
لكن، هذه التدخلات لم تستطع أن تُثني عزم رئيسي بلديتي اسطنبول وأنقرة اللذين أطلقا حملة أخرى لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد. صحيح أنهما لم يستطيعا جمع التبرعات وإيصالها إلى المواطنين، لكنهما بهذه الخطوة التالية حققا نجاحاً باهراً، ما أصاب كلاً من رجب طيب أردوغان والقائمين على حزب العدالة والتنمية بالذهول أمام هذه الحملة الناجحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقد أطلقت بلدية اسطنبول هذه المرة حملةً أخرى بعنوان: "الفاتورة المعلقة"، ويعني ذلك أن المواطن الذي لديه فاتورة كهرباء أو ماء أو غاز وأي فاتورة أخرى، سيتقدّم بطلب ليأتي مواطن آخر ويتحمّل أعباءها عنه. ويكون دور البلدية هو التنسيق بين المعسر والموسر. وبهذه الطريقة بلغ عدد العائلات التي جرى دفع فواتيرها في اسطنبول فقط 150 ألف عائلة من ذوي الدخل المحدود.
وأطلق رئيس بلدية أنقرة حملة "سداد دفتر الديون"، ويعنى ذلك أن المواطن الموسر سيدفع عن المدين مبلغاً يسد حاجاته الشهرية. وتقوم البلدية بالتنسيق بين الموسر والمعسر. وبهذا بلغ عدد المستفيدين ما يقرب من 50 ألف أسرة، ذات دخل منخفض استدانت من متاجر البقالة أو السوق أو أي مكان آخر. ولا تزال الحملات من هذا النوع مستمرة إلى الآن.
وخير ما يفسّر هذا الوضع الذي وقع فيه أردوغان هو المثل التركي القائل: "بينما تفكر الشاة في النجاة بروحها يفكّر الجزار في اللحم الذي يبيعه". ولذلك نستطيع القول إن كورونا أضر شعبية أردوغان وحزبه إضراراً كبيراً، وانعكس ذلك على استطلاعات الرأي التي نُشِرت أخيراً. لذلك، يمكننا القول إن كورونا أفقد هيبة خطيرة لكل من الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
وأعلنت شركة ماك (MAK) للبحوث الاستشارية، المعروفة أيضاً بقربها من الحكومة الحاليّة في الاستطلاع الذي نشرته أخيراً، أن حزب العدالة والتنمية خسر 12 في المئة من الأصوات. ويبدو أنّ الرئيس أردوغان غاضب جدّاً، بسبب حملات المساعدة الذكية التي تجريها البلديات التابعة للحزب الشعب الجمهوري، لكنه يشفي غليله بالضغط على بلديات حزب الشعوب الديمقراطية، التي يدعهما الأكراد. فقد عيّن أخيراً أوصياء على ثلاث بلديات تابعه لهم، بعد إزاحة رؤسائها بحجج واهية.
وبهذه الخطوة الأخيرة نُحِّي 44 رئيساً تابعاً لحزب الشعوب الديمقراطية من أصل 59 رئيساً وصلوا إلى تلك المناصب من خلال الانتخابات. والسبب في ذلك أن حكومة أردوغان تعرف يقيناً أنها إذا تعاملت مع رؤساء البلديات التي يتبع رؤساؤها حزب الشعب الجمهوري مثلما تتعامل مع هؤلاء فستفقد مزيداً من الأصوات في ظل هذا النجاح الباهر الذي حققوه أخيراً، لكنها في الوقت نفسه تريد أن ترفع من نسبة التوتر في البلاد من خلال افتعال خصوم جدد، حتى تستفز مناصريها وترصّ صفوفهم. كما أنّ مثل هذه الأجواء تساعد على إلهاء الرأي العام عن إخفاقات الحكومة في مجال الاقتصاد والسياسة الداخلية والخارجية.
لكن، مهما فعلت الحكومة حاليّاً فإنّ المعارضة أقوى من الحكومة لدى الشعب، فإذا استطاعت المعارضة أن تؤسس في ما بينها تحالفات ذكية فسيحالفها الحظ، وإلا فستخسر رغم هذه الظروف المناسبة. ولا ننسى أنّ أردوغان في هذه الأيام التي تتردد فيها شائعات الانتخابات المبكرة سيبذل قصارى جهده للحيلولة من دون إقامة المعارضِين تحالفاً قوياً، حتى ولو كان الثمن إلقاء البلاد في الجحيم. لكننا نأمل أن يتحقق ما قاله أجدادنا على مر العصور: "ربما تقفز الجرادة مرة أو مرتين، لكنها ستقع في الفخ في ثالث مرة". فقد قفز أردوغان في انتخابات البلديات قفزة فاشلة، وتعثَّر بكورونا في قفزته الثانية، ولننتظر: هل سيستطيع القفز هذه المرة بانتخابات ستُجرى في ظل أزمة اقتصادية مقبلة؟