منذ بداية انتشار جائحة كورونا في تونس، تحدث الجميع عن بطولات الجيش الأبيض في محاربة الوباء، من دون الالتفات إلى تضحيات العاملات في القطاع الزراعي، اللّواتي يشاركن في منظومة توفير الأمن الغذائي في ظروف قاسية ومقابل أجر مادي زهيد.
في محافظة سيدي بوزيد، وسط تونس، التي تضمّ حوالى 100 ألف مزارعة، تعيل راضية (46 سنة) عائلة مكوّنة من ثلاثة أطفال ووالدهم العاطل عن العمل. تقول إنها تسير يومياً عشرات الكليومترات منذ ساعات الصباح الأولى لتصل إلى الحقل، غير آبهة بمخاطر كورونا التي تتصدّى لها بغطاء رأسها.
تضيف راضية بكثير من الألم، "إذا خرجت إلى العمل، فإنّ احتمال إصابتي بكورونا ضئيل جداً، لكن إذا امتثلت للحجر الصحي، فإنّ احتمال موتي جوعاً مع أطفالي أمر حتمي ولا مهرب منه".
تواصل راضية حديثها "أشعر بالفخر، فأنا مثلي مثل الطبيبة التي توفّر العلاج والدواء للمصابين"، مضيفةً "أشارك أيضاً في توفير الخضار والغلال لتأمين حاجات التونسيين القابعين في بيوتهم بسبب الحجر الشامل".
تجاهل الدولة
تقول زميلتها آمال (39 سنة)، التي انقطعت عن الدراسة منذ الثانوية العامة بسبب الفقر، على الرغم من تميّزها وحبّها للأدب، "إنّنا في الصفوف الأمامية كغيرنا من رجال الأمن والصحة والإعلام، لكن الدولة تجاهلتنا ولم تلتفت إلينا، ولم توفّر لنا أبسط وسائل الحماية كالكمّامات ومواد التعقيم".
وتصف آمال ظروف العمل بـ"الكارثية والمضنية، التي تمتدّ لساعات طويلة مقابل أجر مادي لا يتعدّى 4 دولارات يومياً، والذي لا يوفّر حاجات عائلتي الأساسية".
في مكان آخر، في أحد أرياف ولاية القيروان وسط تونس، التي تضمّ عدداً كبيراً من الفلاحات، تقول منية (33 سنة)، متزوجة وأم لطفلين، "لا يمكنني أن أمكث في المنزل أكثر من يومين. فهذه المدة كافية لنفاذ كل المؤونة"، خصوصاً أن الحجر الصحي العام أجبر زوجها على إغلاق محله الصغير والبقاء في البيت.
منية كغيرها من المهمّشين في تونس، أُغلقت في وجهها أبواب المنح الاجتماعية التي صرفتها الدولة للفئات المحتاجة، لتجد نفسها تحت رحمة السلطة المحلية التي لم تنصفها، وفق قولها.
وتفيد الإحصاءات الرسمية في تونس بأن 70 في المئة من اليد العاملة في القطاع الزراعي هنّ من النساء، و99 في المئة منهن مقيمات في المناطق الريفية و12 في المئة فقط منهن يتمتّعن بالتغطية الاجتماعية، و80 في المئة من النساء الريفيات يعملن من دون عقود عمل خلال فترة العمل الموسمي ومن دون إجازة أسبوعية.
لا إجراءات استثنائية
تواصلت "اندبندنت عربية" مع مندوبة وزارة المرأة التونسية في محافظة سيدي بوزيد هنية النصيري، التي كانت منشغلة بزيارة إحدى الفتيات اللواتي تعرّضن لحادث سير على متن الشاحنة التي تنقلهن إلى الحقل.
تقول النصيري حول ظروف العمل في هذه الفترة الاستثنائية، إن الوزارة حاولت تقديم النصح للعاملات في المجال الزراعي عن طريق بعض الحملات التوعوية، بهدف تأمين سلامتهن الصحية.
وتشير إلى توزيع بعض الأقنعة على العاملات من قبل جمعيات، لكن عندما سُئلت عن مساعدات الدولة المخصّصة لحماية المزارعات، قالت صراحة إن "الجهات الرسمية لم توفّر لهن الكمامات"، إلّا أنّ بعضهن حصل على المنح الاجتماعية والمساعدات العينية.
وأكدت أنه لا يوجد أي إجراء استثنائي بشأن حماية العاملات ومساعدتهن في هذا القطاع خلال هذه الفترة.
خارج المنظومة
تقول منسقة منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تونس منيار المجبري إن المجتمع المدني وجّه رسالة إلى رئيس الحكومة لاعتماد سياسة نسوية لمقاومة الفيروس وتداعياته على حقوق النساء، بخاصة "اللواتي يعانين من هشاشة اقتصادية واجتماعية وفي حاجة إلى الدعم والإحاطة والتصدّي للعنف المسلط ضدهن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلّا أنّ كل هذا "لم يجد إلى اليوم أي صدى ولا أي تفاعل جدي من قبل الحكومة، ولم نسمع عن أي إجراء خاص بهذه الفئة"، وفق ما تقول المجبري لـ "اندبندنت عربية".
أما عن التغطية الاجتماعية، فتوضح "لاحظنا أن عدداً كبيراً منهن خارج المنظومة التي أُطلقت بمبادرة شبابية اسمها احميني، والتي تبنّتها الحكومة بعد ذلك كحلّ لوضعية العاملات في القطاع الزراعي"، مضيفة "هذه الفئة تعمل خارج المنظومة القانونية وتنتمي إلى قطاع اقتصادي غير منظم، وتعاني من تدنّي الأجور وعدم الاستقرار الوظيفي وتعرّضها لانتهاكات معنوية ومادية. وهذا أكبر دليل على فشل الاقتصاد الرسمي في استيعاب هذه الفئة وفشل التشريعات في حمايتها".
وتضيف أن "العاملات في القطاع الزراعي كغيرهن من الفئات الهشّة هنّ ضحية الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي شهد أزمات متواصلة بعد الثورة نتيجة تعمّق الفوارق الاجتماعية وارتفاع نسب الفقر والبطالة في المناطق الريفية، لتكون هذه المؤشرات أكثر وقعاً على المرأة العاملة في الوسط الريفي بسبب غياب إرادة سياسية لحمايتها، على الرغم من كل الدعاية الإعلامية والانتخابية".
الفلاحات الكادحات
وكانت رئاسة الحكومة هنّأت العائلة الفلاحية الموسّعة بمناسبة اليوم الوطني للفلاحة والصيد البحري، الذي يوافق الذكرى 56 للجلاء الزراعي وذلك في 12 مايو (أيار) 1964، وشكرتها على ما تبذله من جهود خدمةً لتونس.
وعبّرت رئاسة الحكومة، في بيان لها، أمس الثلاثاء، عن استعدادها للوقوف إلى جانب الفلاحين في نضالهم اليومي لتعزيز دور القطاع الزراعي في الاقتصاد الوطني وفي مجمل مجالات الحياة، مؤكدةً أنها ستعمل على إعادة الاعتبار للفلاحين، بخاصة النساء الفلاحات الكادحات.