Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"خيانة المثقفين" لجوليان بندا: عن الذين ينسون القيم

اليمين واليسار في سلة واحدة والمجد لتولستوي

المفكر الفرنسي جوليان بندا (أرشيفية)

لعل أهم وصف يمكن إسباغه على كتاب "خيانة المثقفين" للمفكر الفرنسي "جوليان بندا" هو أنه كتاب شبح، وذلك لأنه واحد من تلك الكتب التي يكثر ذكرها بين الحين والآخر لكن قلة رأته، بالإضافة إلى أنه واحد من تلك الكتب التي يرجع إليها كثر في مقالاتهم ودراساتهم ومواقفهم لكن قلة من بينهم قرأته حقاً. ولنضف إلى هذا أن مؤلفه نفسه نادراً ما يُذكر في أي سياق آخر، وقلة فقط تعرف أن له الكثير من الكتب الأخرى غير هذا الكتاب.

ومع هذا لا بد أن نشير إلى أن مرحلتين على الأقل من التاريخ الثقافي الفرنسي في القرن العشرين شهدتا ظهور "خيانة المثقفين" بقوة في الساحة الثقافية الفرنسية، الأولى عند نهاية العقد الثالث من القرن العشرين بعد ظهوره مباشرة في عام 1927، حيث أحدث ضجة كبيرة وسجالات صاخبة وقسم الرأي العام الثقافي الفرنسي عمودياً. والأخيرة في عام 1946 حين صدرت طبعة جديدة له مع مقدمة عصرية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية يوم بدأت تصفية الحسابات من حول تعاون العديد من المثقفين الفرنسيين مع المحتل النازي، ما كشف عن راهنية ذلك الكتاب كما سوف نرى بعد سطور.

بين المثقفين والكهنة

قبل ذلك لا بد من توضيح يتعلق بعنوان الكتاب. فالحقيقة أن الترجمة الحرفية للعنوان هي "خيانة الكهنة" غير أن أحداً لم يتعامل مع العنوان بهذا المعنى، بل فهم الجميع أن الكهنة هنا كناية عن المثقفين. ومن هنا لم يتعامل أحد مع كتاب "بندا" على أنه نصّ ديني، بل على أنه كتاب أشبه ببيان يتصدى لضروب الخلل، "الواصل إلى حد الخيانة"، الذي كان يسود الحياة الفكرية والأدبية في فرنسا أواسط القرن العشرين. فمن هم هؤلاء الذين يتهمهم بندا بالخيانة في كتابه، ومن خانوا ولماذا؟

ببساطة هم عموم المثقفين الذين رأى أنهم جميعاً خانوا الفكر النقيّ الخالص، هائمين وراء الأهواء السياسية والأيديولوجية، متخلّين عن المثل العليا التجاوزية، التي يعود بها الكاتب إلى أفلاطون، معتبراً أن كل المثقفين قد غدروا به، هم الذين كانت مهمتهم تقضي في الأساس محاربة كل ضروب ما يسمونه بالواقعية السياسية والنزعات القومية، باسم تلك القيم العليا، قيم العدالة والحقيقة والجمال التي "من الواضح أنه لم يعد لها مكان في عالمهم". وهو يسمي بالتحديد القسم الأكبر من مفكري جيله فنجده يقارع موريس باريس وشارل مورّا وغابرييلي دانونزيو وجورج سوريل، واضعاً الفاشيين والماركسيين في سلة واحدة، لكنه لا يكتفي بهم وبأمثالهم بل يوسع دائرة هجومه لتشمل مفكرين ألماناً من هردر إلى نيتشه، ثم في عودة إلى الفكر الفرنسي يهاجم صديقه القديم برغسون، الذي يأخذ عليه كونه قال يوماً إن كل شيء يبدأ صوفياً لينتهي سياسياً.

"وطنهم دائماً على حق"

والحقيقة أنه ندر ما نفد واحد من أبناء ذلك الجيل والجيل الذي سبقه من "سلاطة" قلم جوليان بندا، الذي انطلق في الكتاب من فكرة في غاية البساطة، مفادها أن "من سوء حظ زماننا أن يرى رجال فكر، أو رجالا يقولون إنهم رجال فكر، يُقسمون على عدم إخضاع نزعتهم القومية لأي رقابة تضعها تحت سلطة أي حكم صائب يمارسه الحسّ السليم معلنين"، كما يفعل موريس باريس، أنه "حتى لو كان الوطن مخطئا يجب أن نعتبره محقاً"، معتبرين كل شركائهم في الوطن خونة للأمة إن هم حافظوا على حرية عقلهم أو كلامهم على الأقل.

واضح ما يقوله بندا إذاً. إذ يستند في ما يرمي إليه إلى حكاية ينقلها عن الكاتب الروسي العظيم ليف تولستوي: يروي لنا تولستوي أنه خلال مسيرة عسكرية شارك فيها حين كان ضابطاً، رأى واحداً من رفاقه الضباط يضرب عسكرياً حدث له أن ابتعد بعض الشيء عن صف العساكر. فقال له تولستوي: أولا تشعر بالخجل إذ تضرب واحداً من أبناء البشر أمثالك؟ أفلم تقرأ ما يقوله الإنجيل؟ فما كان من الضابط الآخر إلا أن أجابه: وأنت أتراك لم تقرأ التعليمات العسكرية؟ ويعلق بندا قائلا، إن "هذا الردّ هو الذي دائماً ما يختبئ خلفه رجل الروح حين يريد تسيير الأمور الدنيوية. وواضح أن غالبية الواعظين المسموعين في أوروبا بخاصة أهل الأدب في فرنسا، لا يتوقفون في أيامنا هذه، عن دعوة الناس إلى السخرية من تعاليم الإنجيل واتباع تعاليم السلطات العسكرية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كلهم في سلة واحدة

لقد ساوى جوليان بندا في هجومه، حين وضع الكتاب ونشره في صياغته الأولى، بين اليسار واليمين فقضيته حينها لم تكن في موقف يجب أن يتخذه بين هؤلاء وأولئك، ومن هنا نراه يشن واحداً من هجوماته الأكثر إدانة على اليساري بول نيزان، صاحب "عدن، الجزيرة العربية" وخاصة "كلاب الحراسة"، متهما إياه بأنه إنما يخدم الفكر البرجوازي في هذا الكتاب الأخير من حيث يخيّل إليه أنه يفضحه. غير أن الكاتب إذ عاد عام 1933 وراح يمثل نوعاً من جناح يساري أخلاقي في الفكر الفرنسي، عدّل أفكاره بعض الشيء في تقديمه لطبعة عام 1946 من الكتاب. ولسوف يكون هذا التعديل مأخذاً رئيساً عليه حيث اتهمه اليمينيون المتطرفون الذين أبقى على قساوة مواقفه ضدهم، بأنه وقف أواخر الثلاثينيات مناصراً لمحاكمات موسكو الستالينية لينتهي الأمر بخصومه إلى اتهامه بأنه ها هو بدوره يخون مبادئه والمثل العليا التي طويلاً ما نادى بها.

مهما يكن من أمر يبقى أمامنا الكتاب الذي يدفعنا دائماً إلى التساؤل حول ماهية أولئك الكهنة "المثقفين"، الذي كان بندا يتوجه إليهم. كانوا بالنسبة إليه كل أولئك الكتاب الذين يلتزمون بالقضايا الأيديولوجية ودائماً باسم قيم يتحدثون عنها مدّعين أنها هي ما يحركهم، لكنهم في الحقيقة لا يتحركون باسم أي قيم إنسانية حقيقية، بل باسم أيديولوجيات ومنطق أحزاب ودول وجماعات منغلقة على نفسها لا تسعى إلا إلى نشر الكراهية وشتى أنواع العداوات في سبيل ما يُخيّل إليها أنها قيم ترتبط بالخير والحقيقة والجمال.

وهنا تكمن "الخيانة" التي يتحدث عنها بندا، التي يمارسها في رأيه كل منتجي الثقافة في فرنسا كما أشرنا. ولقد كانت النتيجة أن الكتاب هوجم من اليمينيين كما من اليساريين ووقف موقفاً عدائياً منه كل أصحاب الآثام الكبيرة والصغيرة في الساحة الثقافية باستثناء "المجلة الجديدة الفرنسية" NRF التي اعتبرته بطلاً كبيراً من أبطالها حتى عام 1940 الذي طالت فيه الهزيمة فرنسا على يد النازيين فشعر اليمين الثقافي الفرنسي أنه قد انتصر، على جوليان بندا بأكثر مما انتصر على الفكر اليساري، حيث واصل اليساريون معركتهم عبر مقاومة المحتل، وألفاف القطاعات الشريفة من الشعب الفرنسي من حولهم، فيما وجد بندا نفسه وحيداً في معركته ولو إلى حين.

عودة ما

 وعلى الأقل حتى عام 1944، الذي هُزم فيه اليمين الفرنسي فأصدر هو في ذلك العام واحداً من آخر كتبه الرئيسة، المنسيّ إلى حد كبير في أيامنا هذه بالطبع، "فرنسا البيزنطية أو الأدب الخالص"، ليعود بعد أقل من عام من ذلك ليصدر الطبعة الثانية التي تحدثنا عنها من "خيانة المثقفين" مع تلك المقدمة التي كانت، على أي حال، ثأره من كل الذين وضعوه على الرف، إلى درجة أنهم مارسوا صمتا كئيباً وقاسياً على كتاب مهم آخر له، كان قد أصدره في عام 1933 بعنوان "خطاب الأمة الأوروبية" نُظر إليه لاحقا باعتباره نصاً مؤسساً لوحدة الثقافة الأوروبية بعيداً عن ضيق الأفق القومي والرطانات الأيديولوجية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة