الحياة أقوى من الخوف والموت. ولا بدّ، بعد أسابيع طويلة من العزلة والقيود المشدّدة على الحياة، من بدء فصل جديد في مواجهة كورونا: تخفيف القيود للعودة إلى ممارسة الحياة بالتدرّج. ولا مهرب بالطبع من أن يدور الجدل في العالم حول سؤال دقيق: من له الرأي الراجح في القرار؟ وما هي الاعتبارات التي تحظى بالأولوية؟ العلماء أم السياسيون؟ الاعتبارات الطبية أم السياسية الانتخابية أم الاقتصادية أم الحاجة إلى العمل لتأمين لقمة العيش؟ وإلى أي حدّ يمكن التوازن بين هذه الاعتبارات؟
الرئيس دونالد ترمب كان ولا يزال يستعجل فتح المصانع والأسواق والمدارس. فالأولوية عنده لربح الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل، بإعادة تنشيط الاقتصاد، ولو قتل كورونا مليون أميركي. والأولوية عند رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أردرن لصحة المواطنين ورأي العلماء، ولذلك خاضت تجربة ناجحة عبر تشديد القيود منذ البدء، بحيث حمت شعبها وصار من الممكن تخفيف القيود. حكومة السويد اختارت نموذج "مناعة القطيع" عبر ترك الحياة تستمر طبيعية، ونجحت. وحجّتها أن عزل الناس في المنازل لا يعطيهم أي مناعة عندما يتم تخفيف القيود. المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل نجحت في التجربة، لأنها صاحبة خبرة علمية أكاديمية. وهي أعلنت أخيراً، "أننا نستطيع القول إنّ الفصل الأول من كورونا صار وراءنا"، لكنها حذّرت من أن الوباء لا يزال في بدايته، وعلينا التعامل معه لوقت طويل. في بريطانيا مجموعة من العلماء لتقديم الاستشارات في الطوارئ إلى الحكومة، لائحة الأعضاء سرية. والاسم الوحيد المعلن هو اسم رئيس المجموعة الدكتور باتريك فالانس، الذي ردّ على المطالبين بكشف الأسماء، قائلاً: "السرية ليست لكي تكذب الحكومة باسمنا، بل لحماية العلماء ومنع التدخلات معهم والضغوط عليهم، بحيث يقدّمون النصائح غير المنحازة". لكن رئيس الوزراء بوريس جونسون استهتر بالوباء وتحدث عن "مناعة القطيع" وأعطى الأولوية في موضوع القيود إلى السياسة، فأُصيب هو بالفيروس وخضع للعزل في العناية الفائقة. وهناك بالطبع ضغط البطالة والركود الاقتصادي والخسائر التي بلغت حتى اليوم نحو عشرة ترليون دولار، وحاجة الناس إلى العمل والحنين إلى ممارسة الحياة العادية.
لكنّ ذلك كله لم يوقف الجدل. فلا يمكن تحديد خط النهاية في وباء لا لقاح ولا دواء له حتى اليوم. والحاجة كما يقول العلماء، إلى أكثر من لقاح ودواء، وقوانين تلغي حقوق الامتياز للشركات وتسمح للجميع بإنتاج أي لقاح أو دواء يتم التوصّل إليه في أي مختبر لأي شركة أو دولة. فمن الوهم القضاء على كورونا بالضربة القاضية، حيث الصراع بالنقاط ضمن حرب استنزاف. كل شيء ببطء، ولا شيء بصورة دراماتيكية. ومقابل التوقّعات الكبيرة بالتغيير، يقول الخبير الاستراتيجي روشير شارما إن الإنفلونزا الإسبانية بين 1918 و1920 قتلت ما بين 50 و100 مليون إنسان، ولم تغيّر كل شيء بل أسهمت في تسريع ما كان يتغيّر. وهو بالطبع ما غيّرته الحرب العالمية الأولى.
لكن من دروس محنة كورونا، زيادة الاهتمام بالإنفاق على الصحة والبيئة والتعليم. فأميركا، وفق إحصاءات مكتب العمل، تحتاج إلى زيادة 12 ألف مختبر في العام، من حيث كانت الزيادة في الواقع خمسة آلاف مختبر. ولا أحد يعرف إن كان سيؤخذ باقتراح قدّمه ستيفانو برتوزي وروبين باقل، خلاصته إنشاء "حرس وطني ميكروبيولوجي"، أي قوة ردّ سريع من علماء لتقوية العناية بالمستشفيات خلال الأوبئة.
في زمن كورونا، مرّت الذكرى السادسة لرحيل الروائي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، صاحب "حب في زمن الكوليرا" و"مئة عام من العزلة". للمناسبة، نشرت "نيويورك تايمز" مقالاً لنجله رودريغو غارسيا، تحت عنوان "رسالة إلى والدي". والبارز فيها التذكير ببعض ما كان يقوله الروائي في حياته: "ما يخيفنا ليس فقط الموت بل أيضاً الظروف". "وما يزعجنا ويشغل تفكيرنا في الوباء، أنه يعيد تذكيرنا بالمصير الشخصي". و"لا أحد يعلّم الحياة أي شيء".
وما يشغل العلماء والسياسيين في فصل تخفيف القيود هو الخوف من الاندفاع الجنوني لممارسة الحياة بعد العزلة الطويلة. وما أكثر دروس كورونا والعزلة وتخفيف القيود وغابرييل غارسيا ماركيز.