Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبدالحبيب سالم مقبل (الأخيرة)

تسبب نشر مقال "شيخ البيعة" في غضب الشيخ عبدالله الأحمر وأبنائه

مشهد من العاصمة اليمنية صنعاء (أ.ف.ب)

لم تقف آثار حرب صيف 1994 عند انهيار مفهوم الوحدة كمسار آمن لتحقيق طموحات اليمنيين وآمالهم، وكانت مستفزّة التصريحات التي أطلقها سياسيون وفقهاء حول ضرورة الحرب، فمنهم من قال "قتلانا في الجنة وقتلى الاشتراكي في النار"، وآخر استند إلى نصوص قرآنية وأحاديث خارج سياقها تحضّ على القتال، واصفاً الحرب بأنها "معركة المؤمنين ضد المشركين". وما انتهت الحرب حتى أدرك العقلاء أن الحلم الذي ظل يراود اليمنيين منذ عقود قد تبخّر عند الذين كانوا يتمنّون بأن تكون كل اليمن مساحة للمحبة والإخاء، فصارت الوحدة كابوساً ثقيلاً يعيشون معه تحت ظل خوف وقلق وعدم الرضا عن الممارسات التي تلت تحطّم الوحدة السلمية الاختيارية.

كانت سنوات الوحدة الأربع الأولى، بين مايو (أيار) 1990 ويوليو (تموز) 1994، استثنائية بكل المعايير، فتمكّنت الأحزاب من العمل بحرية ونشاط ومن دون قيود وقدّمت لها الدولة مساعدات مالية بموجب القانون. كما ازدهر الإعلام وارتفع سقف الحريات إلى مستويات لم يبلغه إلّا ربما لبنان. لكن انتهاء ما سمّاه المنتصرون "الحرب من أجل الوحدة"، أعاد الحريات إلى مرحلة ما قبل 22 مايو 1990، ولم يعد في البلد إلّا صوت واحد هو صوت علي عبدالله صالح وحليفيه عبدالله بن حسين الأحمر وعلي محسن الأحمر.

كان لافتاً أن الأجهزة الأمنية استولت على أرشيف الصحف مثل "صوت العمال" و"الثوري" و"المستقبل"، التي كان الحزب الاشتراكي يموّلها وكان معظم نقدها موجهاً إلى صالح وأسرته ونظامه. ولا أدري هل احتفظت به أو أحرقته بعدما نهبت محتويات مكاتب تلك المطبوعات، واعتقلت عدداً من صحافييها، ومثلت هذه الأعمال مؤشراً إلى ما ستكون عليه الحال بعد الحرب، وأن ما كان متاحاً قبلها لن يُسمح باستمراره.

توقّف عبدالحبيب عن الكتابة لفترة قصيرة، ثم عاد في 18 سبتمبر (أيلول) 1994، بمقال عن "فقه الضرورة" من حلقتين نشرتهما صحيفة "الشورى" وتناول فيهما دور حزب الإصلاح في الحياة السياسية بعد الحرب وقبلها، وكذا علاقة الشيخ (الأحمر) بالرئيس (صالح). أثار المقال غضب قيادات حزب الإصلاح، التي كانت حينها متمسّكة بمحورية وأهمية العلاقة بين الرجلين لتحقيق مصلحة حزبية مستدامة عبر تقاسم السلطة مع المؤتمر، وبحسب تصريح الشيخ الأحمر فـ"لا فرق بيننا، المؤتمر والإصلاح واحد".

كانت صحيفة "الشورى" هي المنبر المتاح الوحيد بعد إغلاق بقية الأبواب، ومنحت كتّابها مساحة حريات معقولة نسبياً في تلك الظروف. كما أن صالح كان راغباً في إعطاء النظام – بعد الحرب – صبغة الحفاظ على الحريات الصحافية، لكن العلاقة التاريخية بين آل الوزير مع السعودية كانت أقوى بطبيعة الحال من أن تجازف الصحيفة بنشر مقال يتناول موضوعاً في غاية الحساسية عن العلاقة بين البلدين.

ذكرتُ سابقاً أن عبدالحبيب أرسل المقال إلى صحيفة "الشورى"، فاعتذرت عن النشر لطبيعة العلاقة بين مالكها (الأستاذ المرحوم إبراهيم بن علي عبدالله الوزير) والسعودية، وكذلك الروابط الشخصية مع الشيخ عبدالله الأحمر. وهكذا، قرّرتُ الذهاب إلى مقر صحيفة "الوحدوي"، حيث التقيتُ بالمرحوم الأستاذ أحمد طربوش وعرضتُ عليه الحلقة الأولى. وبعدما قرأها، وافق على النشر وطلب مني أن أعطيه الحلقات الثلاث، فقلتُ له "أنشر الأولى ثم أمرّ عليك بالثانية ثم الثالثة في حينه". وكانت مقالة "شيخ البيعة" بحلقاتها الثلاث توثيقاً للعلاقات اليمنية – السعودية، ودعوة صادقة نزيهة المقاصد إلى إجراء مراجعة لها وإخراجها من نطاق الدوائر الشخصية والارتقاء بها إلى عمل مؤسسي عبر قنوات علنية معروفة للجميع.

تسبّب نشر مقال "شيخ البيعة" في غضب الشيخ عبدالله الأحمر رحمه الله وأبنائه، وصارت علاقته بعبدالحبيب، عضو مجلس النواب أكثر توتّراً، وكان يتعمّد حجب حقّه في الحديث خلال الجلسات وعدم إشراكه في الزيارات التي يقوم بها الأعضاء إلى الخارج. وقد ذكر عبدالحبيب في إحدى مقالاته، "فقه الضرورة" في 25 سبتمبر 1994، أن أحد أبناء الشيخ عبدالله الأحمر - كان عضواً في مجلس النواب- أبلغه رسالة شخصية من والده أن "أبي – رئيس البرلمان- يقول: قد ضحّينا كثيراً ومستعّدون للتضحية وأنت عضو غير مرغوب فيه من بين كثيرين من الأعضاء في المجلس – وإن القانون الذي يحكمنا في البرلمان وفي الدولة هو قانون المصلحة، فلا تتجاوزوا حدودكم".

في مارس (آذار) 1995، قرّر عبدالحبيب الاستقالة من عضوية مجلس النواب وأراد لها أن تكون رسالة وداع، فوضع فيها مبرّراته (التي لا تزال قائمة حتى اليوم)، وتمنّى فيها لزملائه "الصبر" وأنه يشعر "بالحزن لقلّة صبري وطباعي التي تخالف منطق الواقع"، واصفاً إدارة المجلس بـ"العبث"، و"سوء إدارة يكلّفنا وشعبنا جهداً ومالاً وأنا لا تتحمّل طباعي التعامل بحسن نيّة واستثمار". وقال إن المجلس "ليس سوى مجلس رديف لأجهزة ومؤسسات الاستبداد والاستعباد داخل الدولة"، وإن ضميره "لم يكن يستوعب العبودية والزيف أطول من هذه الأشهر"، وإنه "سيفتقد الفوضوية التي يعيشها المجلس والمخالفات اليومية للقانون والدستور"، مذكّراً الأعضاء بأنه تعلّم "خلال سنتين أن السلطة الفاسدة والديمقراطية لا تجتمعان، فالسلطة مفسدة حقاً وكدتُ أعذر رئيس الدولة ونائبه ومستشاريه والوزراء والقادة وكل صاحب مركز، على فسادهم وكدتُ أعذرهم على الاستماتة للبقاء في مراكزهم، ذلك لأنهم مطبوعين بعبودية السلطة وامتيازاتها".

رفض الشيخ عبدالله الأحمر عرض الاستقالة على المجلس، مخالفاً اللوائح الداخلية التي تلزمه ذلك، واعتبرها فرصة لإبعاد عبدالحبيب عن المجلس، وكان الإجراء الأول هو وقف مستحقّاته القانونية، ولم ينزعج أغلب الأعضاء لاستقالة زميلهم عن المجلس وغيابه، فصارت مقبولة بحكم الأمر الواقع.

بقيتُ على تواصل مع عبدالحبيب ونلتقي في المرات التي كنتُ أزوره في تعز، وكان حينها يعيش بهدوء داخلي وبدأ التفكير جدياً بالالتحاق لدراسة الماجستير. فجرت وساطات، قرّر بعدها الرئيس الراحل خروج عبدالحبيب ملحقاً ثقافياً  بولندا، على الرغم من أنه كان يودّ الذهاب إلى تونس ليقترب من دراسة اللغة الفرنسية. وفي تلك الفترة ذاتها، كنتُ أنتظر الموافقة على تعييني كأول قائم بالأعمال لدى دولة الكويت، بعد خمس سنوات من إغلاق سفارة اليمن هناك إثر الغزو العراقي.

بلغ عبدالحبيب نضجاً سياسياً وذهنياً مذهلَيْن في العامين الأخيرين من حياته القصيرة، وكان شديد الاعتزاز بتمسّكه بالمبادئ والنزاهة وأهمية مواصلة رفع وعي الناس بشرح ما يدور من دون تجميل ولا تزييف. ولا أشكّ أن حرب صيف 1994 جعلته أكثر قلقاً على مستقبل البلاد، لكنه ظلّ ملتزماً بالتفكير بصوت مرتفع حدّ الصراخ كي تصل كلماته إلى كل يمني في أي بقعة من البلاد، وما كان يخشى المواجهة مع الحاكم ولا مخاطرها.

لم يسعف القدر عبدالحبيب للسفر والابتعاد عن المناخ المسموم الذي تكوّن ضده والكراهية ضد أفكاره وما يؤمن به. فتوقّف قلبه عن النبض في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1995. ولن أنسى المرة الأخيرة التي رأيتُ فيها وجهه بابتسامته الساخرة دوماً، وقد فارقني وأسرته ومحبيه، ولكنه ترك إرثاً عظيماً من الشجاعة والصراحة والنبوغ وحبّ اليمن.

رحم الله الصديق عبدالحبيب سالم مقبل.

المزيد من آراء