يتلخص التعويض الوحيد عن التهديد الوشيك المتمثل في مرض مميت في أنه يحرركم من القلق في شأن أي شيء آخر.
وسيفهم الأمر كل شخص انتظر يوماً نتيجة التصوير بالرنين المغناطيسي. وخلال الأيام الفاصلة بين التصوير ومعرفة نتيجته، تعيشون في عزلة. ولا يعود مهماً كل ما يحصل في عالمكم.
وتتبخر الضغوط المعتادة. وتغرقون في نوع مريح وغريب، من جمود الحركة. ومع خروج المستقبل مؤقتاً من مجال رؤيتكم، تعيشون في شكل كامل في الحاضر.
وهكذا يكون الحال مع فيروس كورونا. ولأشهر عدّة، احتكرت الجائحة تماماً التركيز فتبخّر كل تهديد آخر، في الأقل كل ما له الصفة الوجودية حرفياً، لكن الأخطر في الأجل البعيد، يبقى في الضباب.
ومن واجبي المشؤوم أن أذكركم بأن ثمة تهديداً آخر لا يزال ماثلاً، وربما يكون قاب قوسين أو أدنى أكثر مما مضى.
وبصراحة، كنت قد نسيتُه أنا نفسي حتى أيام قليلة خلت. ومن ثمَّ، على غرار اليرقات التي تنبعث من قطعة لحم نتنة، عادت بلادة بريكست مجدداً إلى مجال الرؤية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع، أن مناصري عملية التشويه الذاتي هذه، بسبب وجودهم في الحكومة، إمّا مضطرون إلى التعقل، وإما مجبرون على التظاهر بالتعقل في ضوء متطلبات المسؤولية الجماعية.
ولم تكن الحال هكذا دائماً. إذ نفد الجنون العقائدي في وقت مبكر من الأزمة، حين رُفِض الانضمام إلى برنامج للأدوات تابع إلى الاتحاد الأوروبي، حسب تأكيد موظف مدني قبل أن ينفي الأمر في شكل غامض، لأسباب أيديولوجية بحتة.
ومنذ ذلك الحين، يبذل رئيس الوزراء بوريس جونسون، ووزير شؤون مجلس الوزراء مايكل غوف، ووزير الخارجية دومينيك راب قصارى جهدهم. وإذا لم تكن الجهود طيبة بالقدر الكافي، فقد حاولوا على الأقل.
أمَّا بالنسبة إلى النواب الأغبياء، فالفيروس نشاط بديل، إذ لا يستطيعون أن يتحدثوا عن بريكست، لأن أحداً لن يُصغي إلى هذا الموضوع، لذا يتحدثون بدلاً من ذلك عن الحاجة إلى إنهاء الإغلاق.
قد لا يشفي الموضوع غليلهم إلى الدعاية. لكن الكُحْل يبقى أفضل من العمى.
ولا مناص من أن يكون قائد الأغبياء غبي كبير. إنّ إدمان السياسي المحافظ إيان دانكان سميث لفت الانتباه، قوي إلى حد، قد يجعله يحضر أتفه المناسبات للظهور دقيقتين على قناة "سكاي نيوز".
وهذا المؤيد المخضرم ( لبرنامج ضمان اجتماعي جدلي في بريطانيا) عرف بـ "الائتمان الشامل" (= خطة للدعم الاجتماعي) Universal Credit ابتعد قليلاً عن الظهور على الإنترنت من قصر يملكه أنسباء له، ولا يترتب عليه إيجار في "باكس" (منطقة باكينغهامشير الراقية)، كي يروّج الفكرة القائلة "إن العودة إلى العمل أولوية مطلقة...".
وكذلك أورد أن الرأي العام "ناضج بالقدر الكافي، ليفهم أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية".
والرأي العام ناضج أيضاً بالقدر الكافي، ليفهم أن الأولوية المطلقة، بغض النظر عن رأي أصدقاء الرجل من التجار، تتمثّل في منع حصول قفزة جديدة في الإصابات والوفيات.
ومن المتوقع أن تؤكد الإحصاءات الواردة من الولايات المتحدة خلال الأسابيع الأربعة إلى الستة المقبلة، تكلفة إنهاء الإغلاق قبل الأوان. فقد تضاعفت التوقعات المتداولة داخلياً في البيت الأبيض والمتعلقة بالوفيات بسبب الفيروس إلى أكثر من 150 ألف شخص تقريباً، لأن "الطبيب" دونالد ترمب شجّع بعض الولايات على تجاهل المبادئ التوجيهية الرسمية التي وضعتها إدارته حول الشروط التي يجب الوفاء بها قبل تخفيف القيود.
وكذلك انضم إلى دانكان سميث في ترويج الحق في الربح على حساب الحق في الحياة، زميله في "المجموعة الأوروبية للبحوث" ستيف بيكر. فمن الصعب أن لا يكون مولعاً قليلاً بهذا الشاب المفرط بالحماسة. ولو أخطأ من حينٍ إلى آخر، فالسبب يقتصر على الحماسة.
ويعتبر بيكر أن القواعد المصممة لإبقاء الناس على قيد الحياة، وتلك قواعد أقل صرامة من المعمول بها في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، تشكّل إهانة بالغة للحرية. والآن أصبح مثله الأعلى (سابقا)، رئيس الوزراء بوريس جونسون بمثابة "الأخ الأكبر" (= الديكتاتور بلغة الروائي جورج أورويل). وبات يتعيّن عليه وفق عنوان رئيس لمقال في الـ"تلغراف" أن "ينهي الإغلاق السخيف والبائس والاستبدادي".
وكان ثمة وقت تحفّظ فيه بيكر وأمثاله على لغة الاستبداد لـ"الحزب الداخلي" (= الطغمة الحاكمة بلغة أورويل أيضاً) في بروكسل. وإذ تتزايد الضغوط لتأجيل انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لأسباب اقتصادية أوضح من أن تُعرَّف ستسود بعد انحسار الفيروس، ربما يلجأ بيكر إلى سوق الاتهامات نفسها مرة أخرى.
لكن في الوقت الحالي يعيد بيكر توجيه الحديث عن الطغيان إلى حكومته.
وإذا بدا غير مدرك إلى أنّ ثلثي الناس يؤيدون القيود الحالية، أو يتصورون أنها أكثر ليونة مما ينبغي، ولا يريدون التخلي عنها في وقت قريب، كذلك يفعل ديفيد ديفيز. ففي نظر داعية التحرر المدني، تشكل سخافة بعض رجال الشرطة الذين يبالغون في التدخل في حياة الناس، اعتداءً شريراً على الحرية، على غرار قوانين الاتحاد الأوروبي التي تتشدد بشأن السلامة في مكان العمل.
ويدب فيه الذعر من الحواجز على الطرق (هل رأيتم حاجزاً؟) وغيرها من العلامات على الديكتاتورية الوليدة، وإذا ساوينا بين غرامة مرة واحدة تبلغ 30 جنيهاً إسترلينياً (37 دولاراً)، وحشد الناس في ملعب لكرة القدم لإعدامهم رمياً بالرصاص، يكون على حق.
ولأن من غير اللائق أن يُترَك ديفيز لوحده، انضمّ إليه السياسي والإعلامي نايجل فاراج. فمن خلال مقاومة شجاعة للتحفظ الذي يمزقه، يوسع فاراج نطاق البلاغة للتعبير عن غضبه. وبعبارة "جنون الإغلاق" يصف تعرضه لزيارة من الشرطة بعد أن سافر في رحلة ذهاباً وإياباً إلى مقاطعة "كِنت"، بلغ طولها 100 ميل (161 كيلومتراً) لتسجيل فيلم قصير، ساحر من دون شك، عن المهاجرين.
وفي إحقاق للحق، لا بدّ من تقدير مخاوفه. فدولتنا البوليسية قمعية إلى درجة أنها أفادت بأن الضبّاط قدموا له بتهذيب نصحاً حول ماهية التنقل الضروري. وفنّد فاراج ذلك بالقول إن صفته "إعلامياً" تجعله من العاملين الأساسيين. وسيكون كذلك بالتأكيد إذا قبل في وقت ما وظيفة مع "تيمبسون" Timpson (شركة بريطانية لتصليح الأحذية).
وكل ما سبق سيعود إلى ما كان عليه، كما قلت، عندما تبدأ الأمة في مناقشة ما إذا كان من العقل أن تلحق بنفسها ضربة أخرى مؤلمة باقتصادها المدمَّر بالفعل، بأن تغادر الاتحاد الأوروبي في الموعد المحدد.
وعندما يحدث ذلك، إذا افترضنا عودة جونسون إلى موقعه الافتراضي من التفاؤل الطائش الفارغ، علينا أن نتذكر هذا: إنّ أفضل حِيَلَه المتفائلة لم تأتِ بـ"بريكست" وحده. فهذا "التوثّب الرهيب" نفسه، على حد تعبيره في مقابلة أجرتها معه الـ"صن"، قد أدّى مباشرة إلى خسارة آلاف لا تُحصَى من الأرواح، بل كادت أن تودي به أيضاً.
© The Independent