لا يزال العالم يلف في دائرة مفرغة بشأن أصل فيروس كورونا المستجد وما أخفته الصين من معلومات كان يمكن من خلالها إنقاذ مئات الآلاف من البشر الذين قضوا متأثرين بإصابتهم بالفيروس القاتل. فالأُحجية التي يسعى العلماء والساسة والحكومات حول العالم إلى حلها، ربما تكون السبيل لوقف تلك الفوضى التي أربكت حياتنا وجعلتنا قيد الإقامة الجبرية في منازلنا جراء تفشي الفيروس التاجي الجديد الذي أودى بحياة أكثر من 250 ألف شخص حول العالم، بخلاف نحو 3.66 مليون مصاب.
وبينما يواصل العالم البحث عن تفاصيل وخيوط عديدة سواء على صعيد الأحداث الأولى لتفشي الفيروس أو بحث نماذجٍ تمكنت من النجاة، فإن واحدة من الخيوط الهامة على الصعيدين، هي تلك الجزيرة الواقعة شرقي آسيا وفي الجنوب الغربي قبالة سواحل الصين، التي على الرغم من أنها أحد ما يُعرف بالنمور الآسيوية الخمسة التي حققت طفرات تنموية واقتصادية على الصعيد المحلي، فإنها لا تزال تناضل من أجل الاعتراف بها كدولة مستقلة عن الصين بعد نحو قرن من إعلان الدولة بها عام 1912.
وخلال الأسابيع الماضية، تكشّف أن تايوان كانت أول دولة في العالم تحذر منظمة الصحة العالمية، في وقت مبكر أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2019، بشأن انتقال فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" بين البشر، كما أنها كانت أول دولة في العالم تنجح في القضاء على الفيروس. وفي مقابلة خاصة مع "اندبندنت عربية" تحدثت كولاس يوتاكا، المتحدثة باسم حكومة تايوان (اليوان التنفيذي)، عن المشهد الدولي والتحركات الأولى لبلدها في مكافحة المرض وتنبيه المنظمة العالمية من خطر قاتل يداهم البشرية.
تحذير تايواني مبكر لـ"الصحة العالمية"
تواجه الصين لوماً عالمياً متزايداً واتهامات بإخفاء معلومات "عمداً" عن الفيروس المستجد، الذي يُعتقد أنه نشأ في مدينة ووهان، حتى أنها لم تعلن انتقاله بين البشر إلا في 23 يناير (كانون الثاني) الماضي في الوقت الذي شهدت حركة السفر من وإلى ووهان خلال هذا الشهر قرابة 7 ملايين شخص، بحسب إحصاءات السفر الدولية. وتقول كولاس "لست متأكدة مما إذا كان ينبغي أن نصفه بـ(تكتم مقصود)، لكنني أعتقد أنهم لم يسمحوا للعالم بأن يعرف ماذا كان يحدث في ووهان، لم يكونوا صرحاء بشأن الأمر".
لكن يظل الأمر المثير هو الجانب المتعلق بمنظمة الصحة العالمية التي أكدت صدق تصريحات مسؤولي الصين بشأن عدم انتقال الفيروس بين البشر، وهو ما كان محوراً لانتقادات وهجوم شرس على المنظمة الأممية، حتى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب قررت حجب المساهمات الأميركية في الموازنة السنوية للمنظمة. تحدثت كولاس باستفاضة في هذه النقطة وكشفت جوانب عِدة مثيرة، حيث قالت "لم تكن هذه المرة الأولى التي نرى فيها منظمة الصحة العالمية تتجاهل تايوان. هذه سياسات. إنهم مهوسون للغاية بلعنة انتهاج سياسة (صين واحدة)، وتناسوا الروح الأصلية للمنظمة"، مؤكدة أن الكارثة التي تكشفت عالمياً هي نتيجة لتفضيل منظمة الصحة العالمية للسياسة على الصحة.
وكشفت المسؤولة التايوانية محتوى المراسلات التي بعثتها حكومتها إلى منظمة الصحة العالمية، كما أمدتنا بصورة من خطاب يعود إلى 31 ديسمبر الماضي، وأوضحت أنه تم تنبيه المنظمة إلى تسجيل حالات تعاني أعراضاً شبيهه بـ"سارس"، وأنهم بالفعل أعربوا عن مخاوف من أن تكون هناك سلالة جديدة من هذا المرض.
تناقض صيني أثار الحذر في تايوان
وأوضحت "في 6 يناير، بعد عدة مطالبات، علمنا من الصين أن الفيروس غير معلوم، فهو ليس السارس وليس متلازمة الشرق الأوسط التنفسية وليست إنفلونزا الطيور أو فيروسات غدية أو إنفلونزا، ما يعني أن البشر ليس لديهم مناعة ضده ولا يوجد علاج له". وأشارت إلى أن "قرار الصين، منذ ديسمبر، بعزل المرضى المصابين بالفيروس الجديد كان علامة واضحة على أن الفيروس يحتمل أن يكون مُعدياً، ينتقل بين الأشخاص، وهذا أمر منطقي بالنسبة إلى أي طبيب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكدت أن الرد الصيني كان متناقضاً، "أبلغونا أنه لا يوجد دليل واضح على انتقاله (الفيروس) بين البشر، بينما يعزلون المرضى، وهذا التناقض كان جوهر شكوكنا وحذرنا، وقد اتخذنا إجراءات احترازية بناء على هذا الأمر، وبالفعل في اليوم ذاته، 31 ديسمبر، بدأنا في اتخاذ إجراءات الحماية التي تفترض انتقال الفيروس بين البشر"، لافتة إلى أن تايوان بدأت منذ ذلك الحين في إرسال فرقٍ طبية على الرحلات القادمة من ووهان حتى يتم فحص الركاب قبل خروجهم من الطائرة، مضيفة "هذا أمر خطير، إنه يتعلق بحياة الناس".
وخلال حديثها شددت كولاس مراراً على الخطأ الذي اقترفته منظمة الصحة العالمية، وقالت "نحن لسنا مهتمين بالتنافس حول من كان الأول في تحذير العالم، فما يهم بغض النظر عمن دق ناقوس الخطر أولاً، هو ما الذي فعلته منظمة الصحة العالمية عندما علمت بذلك؟". وأوضحت أن المنظمة ردت عبر البريد الإلكتروني بعد وقت قصير، بالقول "عزيزي دكتور (س)، لقد وجهت إلى زملائي الخبراء للحصول على المشورة"، لكنهم لم يقوموا أبداً بتقديم الرسالة إلى EIS (نظام معلومات الأحداث) بناءً على لائحة الإجراءات الصحية الدولية ليقرأها الأعضاء، ولم يستجبوا أبداً لما أثير من مخاوف من جانب تايوان.
وتابعت المتحدثة الحكومية "كل ما كان يهم بلادي هو إنقاذ حيوات الناس، ونأسف للغاية عندما نسمع أن منظمة الصحة تنكر أن تايوان حذرتها حيال الأمر".
استراتيجية النجاح
كانت المخاوف الأولى التي أثيرت داخل تايوان مفتاح قصة نجاحها في القضاء على الفيروس، إذ سارعت السلطات منذ ذلك الحين لاتخاذ الإجراءات الوقائية من فحص المسافرين واتباع سياسات التباعد الاجتماعي والنظافة الشخصية، غير أن المصارحة كانت عاملاً حاسماً أيضاً. وتقول كولاس "نعتقد أن الأولوية الأولى هي المعلومات الشفافة. فقط إذا كانت لديك شفافية منذ البداية، يمكن للأطباء إدارة المرض في وقت مبكر، والحكومة تكون على استعداد جيد، ويمكن للناس حماية أنفسهم بشكل صحيح".
وتابعت "عندما اشتبهنا للمرة الأولى في انتقال العدوى من شخص لآخر، في 31 ديسمبر، أرسلنا بريداً إلكترونياً إلى منظمة الصحة العالمية، أرسلنا أطقماً طبية على متن طائرات قادمة من ووهان وأخضعنا جميع الركاب لفحص درجة الحرارة وكتابة تقرير صحي قبل النزول من الطائرة. ولمنع التلوث محلياً، أخبرنا الناس بضرورة غسل اليدين وارتداء الأقنعة في وقت مبكر جداً، وتوقفنا عن تصدير الأقنعة والمواد الخام لمعدات الحماية الشخصية. لم نرغب في ارتكاب نفس الأخطاء التي وقعت فيها الصين، بشأن منع المعلومات عن شعبنا، وأعتقد أن هذا هو سبب نجاحنا حتى الآن".
أصل فيروس كورونا
يعكف الخبراء في تايوان على دراسة منشأ وأصل فيروس كورونا المستجد، في وقت أثيرت العديد من الشكوك من قبل كبار المسؤولين الغربيين وفي المقدمة الإدارة الأميركية بشأن احتمال أن يكون الفيروس قد هرب من معمل في ووهان متخصص بدراسات فيروسات كورونا في الخفافيش.
وبحسب كولاس فإن العلماء في تايوان لم يصلوا إلى نتائج حاسمة بشأن هذا الأمر، غير أنها لفتت إلى أنهم نشروا أخيراً ورقة بحثية مهمة في مجلة العلوم الطبية الحيوية، تخلُص إلى أن فيروس كورونا المستجد الذي يُعرف علمياً أيضاً باسم "سارس CoV2" نشأ في مدينة ووهان، وأضافت "خلص العلماء أيضاً إلى أنه من المحتمل أن يكون الفيروس قد بدأ بالانتشار قبل تحديد الحالة الأولى. يقترح علماؤنا أنه يجب النظر في العينات المأخوذة من مرضى الالتهاب الرئوي قبل تفشي المرض".
وخلال الأيام القليلة الماضية زادت الدعوات الدولية بالتحقيق والضغط على الصين للكشف عن المزيد من المعلومات حول تفشي الفيروس القاتل، فإلى جانب الولايات المتحدة طالبت فرنسا وبريطانيا وأستراليا ودول أخرى بإجراء تحقيق دولي في عدم شفافية بكين منذ البداية بشأن الأمر، وقامت السلطات الصينية باعتقال وتهديد طبيب شاب حذرهم، في أوائل ديسمبر، من وجود فيروس غامض أصيب به عدة مرضى في ووهان، كما واصلت الدولة الآسيوية التكتم بشأن الفيروس حتى أوائل يناير.
العالم بحاجة لمعرفة الحقيقة
وقالت المتحدثة التايوانية "يحتاج العالم إلى المطالبة بمعرفة الحقيقة، وطلب المزيد من الشفافية من الصين، وأن تكون صادقة، فقط عندما يكون لديك معلومات شفافة، يمكنك منع حدوث أزمة أخرى مثل هذه".
تايوان بلد مستقل
وأضافت "أتمنى أن يكون المجتمع الدولي قد تعلم دروساً من هذه التجربة، ونريد من دول مختلفة أن ترى الصين بشكل مختلف، والتخلي عن السياسة القديمة عند النظر إلى تايوان"، وشددت على أن بلادها ليست جزءاً من الصين، قائلة "إن معاملة تايوان كجزء من الصين أكبر خطأ ارتكبته منظمة الصحة العالمية، فنحن بلدٌ مستقل، لدينا 23 مليون نسمة، وحياتنا غالية، ونرغب في أن نكون حاضرين ومساهمين".
وتصرّ الصين على أن الجزيرة التي استقلت عنها منذ عام 1949 وتحكمها حكومة منتخبة ديمقراطياً، هي جزء من الدولة الصينية، ولا بد من إعادتها إلى سيادتها، وتروّج لوجهة نظر سياسية وهي "الصين الموحدة" التي تنص على إن كلا من بر الصين الرئيس وتايوان كيان واحد يتبع الصين الأم، والذي تفتت منذ الحرب الأهلية في أواخر الأربعينيات. وتعترف العديد من دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، بتايوان كدولة ذات سيادة.
وترتبط تايوان وأميركا بعلاقات وثيقة وتعاون واسع على صعيد مجالات مختلفة، وأشارت المتحدثة باسم الحكومة إلى تزايد التعاون في الآونة الأخيرة بشأن فيروس كورونا، موضحة "على سبيل المثال، تبرعنا بأقنعة للولايات المتحدة، وقد طلبت الحكومة الأميركية من الشركات لديها بيع المواد الخام الخاصة بمعدات الحماية الشخصية لتايوان، وفي 28 أبريل (نيسان) الماضي، أجرى وزير الصحة تشين شي تشونغ، مؤتمراً عبر الهاتف مع نظيره الأميركي، أليكس عازار".