رأينا في البداية الذعر الذي أحدثه نقص الفحوصات والمعدّات، والآن نرى الذعر الذي يسبّبه ضعف الرعاية الاجتماعية. هكذا تفضح حالات طوارئ فيروس كورونا واحدة تلو الأخرى عيوب نظام رعايتنا الصحية، الذي يُفترض أننا محسودون عليه في العالم. وينكشف تدريجاً أنه يفتقر إلى القدرة الاستيعابية ويعتمد على نظام مشتريات وتوزيع ميؤوس منه، وصفه الجنرال السير نيك كارتر، قائد الجيش، بأنه "أكبر تحدٍّ لوجستي فردي" واجهه طوال 40 عاماً من الخدمة العسكرية، وهو أيضاً نظام يتخبّط في عالم من الفوضى لتوفير الرعاية لذوي الاحتياجات طويلة الأمد.
فهل يمكن أخيراً تلمّس العار الذي يمثله واقع مقدمي الرعاية، مِمَّن يتقاضون أجوراً زهيدة وينتقلون من منزل إلى آخر، وينتظرون في آخر الطابور للحصول على الملابس الوقائية، كما يُستَبعدون من امتيازات التسوق المتاحة لموظفي خدمة الصحة الوطنية، ناهيك عن الأمن الوظيفي والتقدم الوظيفي والمعاشات؟
والأهم من ذلك، هل يمكننا أن نأمل في ألّا يُنظر إلى هذا الواقع كمجرد وصمة عار، وإنما أيضاً كوضع لا يُطاق وملح للغاية تقتضي معالجته بشكل فوري؟
لا أعرف بلداً متقدماً في العالم تمرّ فيه الخدمة التي نطلق عليها "الرعاية الاجتماعية،" بحالة العطالة الوظيفية وغياب الإنصاف اللّذين تعاني منهما هذه "الرعاية" في إنجلترا وويلز. أما في اسكتلندا، فهي مختلفة، لكنها ليست بمنأى عن الانتقاد. والجميع يدرك حقيقة الأمر حتى في الولايات المتحدة، فإما أن تؤمّن نفسك أو تدفع، أو تتخلّف عن السداد، وتغطّي الدولة في إطار نظام "ميديكير" للرعاية الصحية، في الأقل جزءًا من الفواتير بمجرد بلوغ الشخص الـ65 من العمر.
لكن يبدو الأمر هنا أسوأ، لأنّ أحداً لا يعرف حقيقة الوضع. قد يكون عددٌ كبيرٌ من العاملين في قطاع الرعاية أمثلة يُحتذى بهم في التعاطف والبراعة. لكن ما نقبل به كنظام صحي هو في الواقع كارثة. إنّ أي شخص تقريباً، بمن فيهم أنا، تعامل مع "نظام" الرعاية بأي شكل من الأشكال في السنوات الأخيرة، سرعان ما وجد نفسه مستاء جداً ومحبطاً ومذهولاً، لأن من الممكن لهذا الإهمال أن يستمر في بلد يعتبره، أو ما زال يعتبره، معظم الأشخاص منظّماً بشكل جيد ويتمتّع بشبكة أمان يعوّل عليها إلى حد معقول. أما بالنسبة إلى أولئك الذين يحتاجون إلى رعاية طويلة الأمد، فإن لا وجود لشيء من هذا القبيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومما يزيد الطين بلّة، ما سمعتُه أخيراً من ملاحظة أحد السياسيين، أنّ وصول نظام الرعاية الاجتماعية إلى هذه الحالة الحرجة يعود جزئياً إلى "خطأ" ارتكبناه نحن، لأننا لم نفعل ما يكفي لإسماع أصواتنا للدوائر العليا في السلطة. وبصفته نائباً برلمانياً، أجدُني مندهشة لأنه لم يتلقَّ مزيداً من شكاوى الناخبين حول الرعاية.
لكن هنالك سبباً وجيهاً لذلك لا يخفي نفسه بالنسبة إلى أي شخص يعمل بالفعل في الرعاية، بأجر أو من دون أجر، وهو: ماذا تعتقد أنّنا نفعل طوال اليوم؟ يحاول مقدمو الرعاية المأجورة أن يحصلوا على ما يكفي من الفُتات للعيش من دون الأساسيات التي توفّرها وظيفة آمنة، أما بالنسبة إلى مقدمي الرعاية بلا أجر، فإنّ الأمر يتعلّق بالوجود على رأس العمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. فلا يكفي عدد ساعات اليوم أحداً منهم لأداء الأعمال التي يؤدونها، ناهيك عن البدء بالتنظيم وممارسة الضغط السياسي أيضاً. وأيّاً كانت الهيئة الحكومية التي أعربت قبل بضعة أعوام عن سرورها بالعدد المفاجئ لمقدمي الرعاية الذين كانوا يستخدمون خدمات الإنترنت في ساعات الليل، فإنّ ذلك يقتضي استجابة مماثلة. لكن، إذا فكّرنا لثانية واحدة، سنتساءل: لماذا؟
كانت تجربتي الخاصة، بالمقارنة مع محن كثيرين، مع نظام الرعاية، نيابة عن زوجي الراحل، الذي كان يعاني من مرض باركنسون، محدودة من حيث الزمن، إذ اقتصرت على بضعة أعوام ومحدودة أكثر لجهة النطاق. وببساطة، لم يكن لدى ما يُسمّى بالخدمة الكثير لتقدمه إلينا، كما تبين لي بوضوح أشدّ كلّما سعيت بجهد أكبر إلى تدبر أموري مع هذا النظام. ومع ذلك، فإن المشاكل التي لمحتها تنطبق على جميع الحالات.
والأكثر تقلّباً ومدعاة للحيرة (لوجود قرعة الرمز البريدي أيضاً) هو الحدود، أو بالأحرى الجدار الذي يقف بين "خدمة الصحة الوطنية" والرعاية الاجتماعية التي تديرها السلطة المحلية. فمن وجهة نظر المستخدم، تعني رعاية "خدمة الصحة الوطنية" أنها "مجانية عند نقطة الاستخدام"، فيما تعني "الرعاية الاجتماعية" أنها مدفوعة الأجر (أي أنها مزية لذوي الدخل المحدود). ومن منظور العاملين هناك، تأتي خدمة الصحة الوطنية مع جميع امتيازات (وقلة من سلبيات) القطاع العام. أما الرعاية الاجتماعية، التي تلزّمها السلطات المحلية لجهات خارجية بالتعاقد، فإنها تُعتبر من أسوأ أعمال القطاع الخاص: قليلة الأجر وغير آمنة ومبعثرة. بالتالي، فإنّ النظامين منفصلان تماماً عن بعضهما بعضاً.
هذا ما يجعل الأشخاص يَعْلَقون في المستشفى، بينما تقرّر السلطة المحلية "حزمة" الرعاية التي يمكن تقديمها ومن يدفع تكلفتها، وريثما تقرر "خدمة الصحة الوطنية" ما إذا كانت عملية إخراج المريض "آمنة". وهذا ما يجعلك تميّز بين رعاية مرضى السرطان، المجانية، ورعاية مرضى الخرف، المدفوعة (على الأقل 600 جنيه إسترليني في الأسبوع). وثمة ميل إلى معاملة بعض الأمراض المزمنة، مثل باركنسون والتصلّب اللويحي وما إلى ذلك، كالخرف. وهذا أيضاً هو ما يدفع الأزواج الحزانى إلى إجراء اتصالات ليلية ببرامج إذاعية والشكوى بصوت متهدّج وعيون دامعة لأنهم أنفقوا كل رواتبهم على رعاية يُفترض أنها مدفوعة. ويتساءلون كيف يمكن أن يحدث هذا في بلد لديه نظام صحي اجتماعي؟
هناك حل واحد فقط لأي من هذه المسائل، وهو التكامل الحقيقي بين النظامين. لكن مرّت 10 أعوام الآن على تعهّد ديفيد كاميرون أن يفعل ذلك بالضبط، علماً أنه كان على دراية بالتناقضات لأن ابنه أيفان كان معاقاً. كما مرت 10 أعوام على تكليف حكومة الائتلاف برئاسة كاميرون، الاقتصادي أندرو ديلنوت بتقديم تقرير عن تمويل "الرعاية الاجتماعية"، ووضعه فعلاً بين يدَيْ الحكومة بعد عام واحد، ما يُعتبر وقتاً قياسياً تقريباً لإنجاز التقرير.
وقطع الأمر منذ ذلك الحين، أساساً خطوتين إلى الأمام فقط. فقد حصل أندرو ديلنوت على لقب شرف من رتبة فارس لقاء أتعابه، وأُعيدت تسمية وزارة الصحة لتصبح "وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية". بيد أنّ توصيات ديلنوت الفعلية لا تزال من دون تنفيذ، علماً أنها لا تُعتبر مثالية وإن كان من شأنها أن تؤدي إلى بعض التحسن. ولا ننسى أن تيريزا ماي خسرت غالبيتها في انتخابات عام 2017 جزئياً لأنها عرضت تبنّياً، أُسيء تقديره، لبعض عناصر تقرير ديلنوت. ومن جانبه، عرض وزير الصحة الحالي على العاملين في الرعاية شارة، مثل شارة موظفي خدمة الصحة الوطنية، لكنها تحمل كلمة "الرعاية".
في غضون ذلك، أصبح "التكامل" شعاراً وحلاً سحرياً، من دون أن يتحقّق أبداً. ولن يتحقّق، طالما أن الطرق التي تسلكها الأموال منفصلة وكذلك الهياكل الهرمية التي تديرها. لذا، تبقى الرعاية الاجتماعية والصحية إمبراطوريتين مختلفتين، بثقافتين مختلفتين، وقليل من المودة بينهما، إن صحّ التعبير. لقد كانت هناك مناسبة عندما فكّرت بشكل جدي سلطتان، واحدة تابعة لـ"خدمة الصحة الوطنية" والأخرى من حكومة محلية، في نقل زوجي من سيارة إسعاف إلى سيارة أجرة في مكان مخصص على الطريق الدائري شمال لندن، لأنهما لم تتفقا على مَنْ ستدفع تكلفة مشوار سيارة الإسعاف.
كان هناك تنسيق لجهة "إعادة التصنيف" لكن بقيت أوجه التعاون الفعلي قليلة جداً، باستثناء مبادرة محلية نادرة. كما لم يساعد فيروس كورونا على دفع عجلة التعاون بين الخدمتين إلى الأمام: فلربما تحصل "خدمة الصحة الوطنية" حالياً على كل ما تطلبه، على شكل أموال ومعدات وحتى مستشفيات جديدة، لكن استغرق الأمر نحو شهرين كي تحظى محنة خدمات الرعاية المبعثرة ودور الرعاية بأي قدر من الانتباه.
وإذا كان ينبغي للتكامل أن يعني شيئاً، وهذا ضروري لصالح المستخدمين والموظفين والأموال العامة على حد سواء، فيجب وضع الخدمتين تحت سقف واحد وفي قناة تمويل واحدة. ربما أكون مخطئة، ولكن ليس من الواضح بالنسبة لي على الإطلاق ما إذا كان عددٌ كبيرٌ من المديرين الذين يتقاضون أجوراً عالية في "خدمة الصحة الوطنية" في إنجلترا مِمَّن يديرون أقساماً متهالكة بأسماء غامضة، قد أسهموا كثيراً بجهود مكافحة الجائحة الحالية. وعندما ينتهي كل شيء، ربما سيحين موعد إطاحة رؤوس كبيرة، ويمكن الضغط على مَن تبقّى منهم لإنتاج خدمة رعاية صحية وطنية جديرة بحمل هذا الاسم.
يجب أن يكون القطاعان جزءًا من خدمة واحدة. وعلى الرغم من أن العاملين في مجال الرعاية كانوا معنيّين بالتصفيق والثناء يوم الخميس الماضي، وأنهم حصلوا على شارات جديدة تؤهلهم للتسوق جنباً إلى جنب مع الممرضين، إلّا أنّهم لن يتمتّعوا أبداً بامتيازات موظفي خدمة الصحة الوطنية ذاتها، ما لم يتساووا معهم في الأجر والأمن الوظيفي وفي آفاق التقدم، بما في ذلك إمكانية الانتقال بين الخدمتين. بالتالي، يجب أيضاً إنهاء التمييز الخبيث بين رعاية مرضى السرطان ورعاية من يعانون من الخرف.
فإذا تمكنت الحكومة، بمساعدة صغيرة من "خدمة الصحة الوطنية" والجيش، من تحويل مركز مؤتمرات إكسل إلى مستشفى نايتينغيل في تسعة أيام، فإنها بالتأكيد قادرة على إنشاء "خدمة رعاية وطنية" بموجب التفويض القضائي ذاته الذي سمح بإنشاء "خدمة الصحة الوطنية" خلال شهر أو ما شابه ذلك. وإذا تحدث الخصوم في "خدمة الصحة الوطنية" عن التكلفة، فإنّ هناك ردَّيْن صالحان بقدر متساوٍ. يتمثل الأول في رأي ديفيد كاميرون بأن الاندماج قد يوفر المال في النهاية. أما الثاني، فهو التعهّد بالقيام بـ "كل ما يلزم"، وذلك هو الوعد الذي تنعم به "خدمة الصحة الوطنية" منذ بتنا عرضة لتهديد فيروس كورونا.
© The Independent