بصفتي مواطناً تركياً، أعرف الأخطار التي تحملها الكتابة حول مثل هذه الموضوعات، ومما يزيد حجم الخطر، أن تركيا تُدار الآن من قِبل مجموعة تتشكل من الإسلاميين والقوميين العنصريين الذين يطبقون سياسات شوفينية في إدارة البلاد.
والأدهى من ذلك أن هناك شريحة كبيرة من أبناء الشعب التركي يؤمنون من دون أي تمحيص أو تدقيق بجميع الأخبار التي تصدرها الحكومة عبر أدواتها الإعلامية، وبما أن حكومة حزب العدالة والتنمية تعرف هذه النقطة، فإنها لا تتوانى عن التلاعب بعقول هؤلاء المواطنين السذج على مدار الساعة من خلال خطابات الدين والقومية.
وعلى الرغم من أنني أقمت في إسطنبول سنوات عديدة، فإن البلد الذي ولدت فيه وقضيت فيه طفولتي كان مستوطنة أرمينية قديمة، وعلى غرار كثير من البلدات في المنطقة غيَّرَت الدولةُ التركية اسم تلك البلدة من أصله الأرمني إلى اسم تركي، لكن جميع أبناء المنطقة كانوا يستخدمون اسمها القديم الأرمني، وشخصيا أعرفها باسمها القديم، ولا يزال الناس يستخدمون تلك الأسماء الأرمنية القديمة على الرغم من نزوح سكانها الأصليين؛ أي الأرمن قبل مئة عام.
مضى قرن من الزمان على تلك المأساة التي راح ضحيتها عدد كبير من الأرمن، ولكن لا تزال تداعياتها تحرج الدولة التركية على المستوى الدولي، وستظل كذلك بعد الآن أيضاً.
وقد ظلت تملي منذ مئة عام على المواطنين روايتها التي تحاول من خلالها التنصل من تلك الأحداث، التي يعتبرها الأرمن مذبحة حصلت على أسلافهم بطريقة خالية من كل القيم الإنسانية.
وكانت الرواية الرسمية التي تُملَى على أمثالي من أبناء الشعب بأسلوب أحادي تَلقَى آذانا صاغية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن المثير للاهتمام أنه بعد الأحداث التي تزامنت مع سيناريو الانقلاب في 15 يوليو (تموز) 2016 بدأت التصورات حول القضية الأرمنية أيضاً تتغير بأذهان كثير من أمثالي في الشارع التركي.
ففي خضم أحداث الانقلاب المزعوم لاحظنا كيف أنهم قطعوا رؤوس عدد من طلبة الثانويات والكليات العسكرية الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عاماً، وكان القاتلون يهتفون أثناء قتل ضحاياهم باسم الدين والوطن، كما أن هناك 250 مواطناً تم قتلهم، ولكن لم يُعرف قاتليهم إلى الآن.
وقد شُكلت لجنة برلمانية مكلفة بالتحري عن ملابسات تلك الأحداث والكشف عنها، ولكن لسوء الحظ تم إغلاق هذا الملف في البرلمان بأصوات نواب حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل لُفقت ذرائع واهية لتطال الاعتقالاتُ الجماعية عشراتِ الأمهات الحوامل اللواتي وضعن حملهن وهن معتقلات، كما أن المرضعات قضين أيام اعتقالهن مع أطفالهن الصغار في السجون.
فهذه العقلية التي لا تتلكأ في تطبيق هذه الإجراءات التعسفية من أجل البقاء في السلطة هي امتداد للعقلية التي كانت تحكم الدولة العثمانية في مراحلها الأخيرة.
ففي تلك الأيام التي كان السلطة الحقيقية في أيدي زعماء حزب الاتحاد والترقي؛ جمال باشا، وطلعت باشا، وأنور باشا انحرفت الدولة العثمانية عن مسارها، ولم تنحصر تلك المظالم في غير المسلمين فقط، بل تسببت قراراتهم الخاطئة ومغامراتهم الهوجاء في قتل ما يقرب من مئتي ألف جندي. كما أن هذه العصابة كانت تظلم الأقوام الآخرين من المسلمين الذين كانوا يعيشون في ظل الدولة العثمانية.
فهؤلاء الذين لم يرحموا حتى أبناء جلدتهم كيف كانوا سيرحمون "الآخرين"؟
ولذلك فإني أؤكد للمرة الأولى في حياتي على أن طلعت باشا الذي كان يشغل منصب الصدارة (رئاسة الوزراء) ووزارة الداخلية أعطى الأوامر شخصياً بقتل الأرمن، وهذه "إبادة جماعية" بكل معنى الكلمة.
ومهما بلغت "جرائم الأرمن"، فلن يبرر ذلك ما تم تطبيقه على سائر أفرادهم من النساء والصبيان والشيوخ الذين لم يكن لهم دخل في القضية سوى انتمائهم إلى الطائفة الأرمنية.
وها هو الدكتور "مصطفى سردار بالابييك"، أحد الأكاديميين الذين يقفون إلى جانب الحكومة في طروحاتها حول القضية الأرمنية يقول، "إنني أعتبر ما حدث عام 1915 ضد الأرمن تهجيراً، ولكن لا يمكنني التشكيك في المأساة التي حدثت حينذاك، فقد كانت هناك خسائر فادحة في أرواح المدنيين".
وهذا يعني أنه لا ينكر وقوع تلك الأحداث بالفعل، ولكنه يتحاشى تسميتها بـ"إبادة جماعية" لأنه يعلم جيداً أنه ستكون لذلك تبعات سياسية.
ويعلم جميع من له إلمام طفيف بالتاريخ العثماني، أن الأرمن كانوا يعيشون في جميع أنحاء البلاد خلال الفترة العثمانية كمواطنين موثوقين. ولكن المشكلة هي أن أبناء المجتمع التركي كانوا يعتقدون أن المسلم لن يظلم الآخرين، وأن الذي يصلي الصلوات الخمس لن يقتل الآخرين، وهذا ما جعلنا لا نؤمن بأي طرح يقول إن الأرمن قُتلوا بشكل جماعي من قِبل المسلمين.
ولكن تبدد هذا الاعتقاد قبل خمس سنوات عندما شاهدنا كيف أنهم لفقوا انقلاباً مصطنعاً ليجدوا الذريعة الكافية التي تُمكّنهم من ظلم الأشخاص أو الشرائح التي يتوهمونها عراقيل في طريقهم.
ومن الواضح أن الاعتراف بالإبادة الجماعية ستكون له عواقب سياسية، وسيؤثر بخاصة في العلاقة بأذربيجان البلد الشقيق. وبالفعل، يجب العمل مع أذربيجان في هذه القضية لأن الأرمن أيضاً ارتكبوا مذبحة هوجالي عام 1992 ضد المواطنين الآذريين.
نعم، يجب على بلدي مواجهة الحقيقة في هذه القضية، وعلينا أن ندفع ما يترتب علينا من التكلفة، فعلى سبيل المثال، اعتذرت ألمانيا لليهود ودفعت تعويضات بسبب المذابح التي ارتكبها هتلر ضدهم. كما اعتذرت الولايات المتحدة أيضاً لليابانيين بسبب القنبلة الذرية التي رمتها على هيروشيما وناجازاكي، وقدمت لليابان امتيازات معينة، فلم تفقد ألمانيا ولا الولايات المتحدة سمعتهما ومكانتهما بسبب الاعتذار، بل على العكس، زادت كرامتهما.
وهو ما يفرض على تركيا مبادرة لتشكيل لجنة دولية تتقصى الحقائق المتعلقة بالقضية، وتبحث في الوثائق التاريخية بكل تفاصيلها. كما يجب على تركيا وأرمينيا وسائر الأطراف الأخرى وعلى الأخص بريطانيا أن تتيح للباحثين الوصول إلى الوثائق المتعلقة بالكارثة.
وكان الرئيس السابق عبد الله جول قام بمحاولة في هذا الصدد، ولكن علمنا لاحقاً أن رجب طيب أردوغان، الذي كان رئيساً للوزراء في ذلك الوقت، قام برد فعل صارم على هذه المبادرة وعارضها بشدة. وأستبعد أن تستخدم الحكومة الحالية على المدى القريب مفهوم "الإبادة الجماعية" بحق المظالم التي تم ارتكابها ضد الأرمن، وكلنا نحمل أوزار تلك الكذبة الكبرى التي تلقيناها من الخطاب الرسمي.
وكلما تهربت الدولة التركية الحالية من قبول هذه الحقيقة فستواصل إرسال الأموال الطائلة إلى اللوبيات الدولية لتقوم بالدفاع عنها من دون جدوى، وستواصل سمعتُها في الانحطاط لدى الرأي العام العالمي بالإضافة إلى الضغوط الدولية بخصوص تعويض أُسر ضحايا تلك المظالم.
وإني على ثقة بأنه على المدى البعيد ستأتي إدارة حكيمة في أنقرة لتحُلَّ هذه المشكلة بطريقة عقلانية رزينة. وشخصياً أعتذر من المواطنين الأرمن نيابة عن الأشخاص غير المسؤولين الذين ارتكبوا هذه المجازر الوحشية.