نادرة هي الصور التي بقيت لنا من الموسيقي النمساوي غوستاف ماهلر، تصوّره مبتسماً. فإذا اعتمدنا على صوره المتوافرة للحديث عن مزاجه الشخصي، سيكون لنا أن نستنتج أن الرجل كان دائم الاكتئاب.
ولقد ألمح السينمائي الإيطالي لوكينو فيسكونتي إلى شيء كهذا، ولو مواربة، من خلال بعض مشاهد فيلمه البديع "موت في البندقية"، المقتبس من رواية توماس مان، التي تطل بشكل ما على ماهلر وأفكاره وحياته، والتي تطالعنا فيها حوارات تشبه ما كان يرد على لسان ماهلر وبقلمه أحياناً.
وما نقوله هنا عن كآبة الرجل، ينطبق بشكلٍ خاص على السنوات الأخيرة من حياة ماهلر، تلك التي تلت بدايات القرن العشرين، وكان من خصائص موسيقاه فيها اتسامها بقدرٍ كبير من الشجن، وهو شجن عكس بالتأكيد تلك الأحداث التي عرفتها حياته في تلك الآونة، لا سيما موت ابنته الكبرى ماريا بالحمى القرمزية واكتشاف الأطباء ضعفاً في قلبه هو نفسه، ناهيك بمعاناته الوظيفية في وقت بات بدوره ضحية للاسامية راحت تستشري حينها. ولعله عرف كيف يعبر عن ذلك كله في رسالة كتبها إلى صديقه برونو والتر، يقول فيها "بضربة واحدة خسرت كل ما كان يخيّل إليّ أنني حققته في حياتي، وبات عليّ أن أبدأ من جديد مثل طفل ولد لتوّه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كلام وموسيقى من الصين
ولعل العمل الذي عرف ماهلر كيف يعبّر فيه عن كل ذلك، هو "أغنية الأرض" التي كانت آخر ما لحّن في حياته، حيث أنجزها خلال عامي 1908-1909. ولا شك أنها تعتبر واحدة من أشهر أعماله. وهي حتى لو صُنّفت "أغنيةً" يمكن اعتبارها في حقيقة الأمر سيمفونية رغم اعتمادها على قصائد استقاها من بعض مقاطع من الشعر الصيني، مضيفاً إلى هذا استخدام السُلم الموسيقي الصيني في تلحينها.
فالحال أن ماهلر الذي كان يطرح على نفسه خلال تلك السنوات الأخيرة من حياته أسئلة وجودية حول الحياة والموت والمرض والخلاص وجد في قصائد قرأها في كتاب مترجم إلى الألمانية عن الصينية عنوانه "الناي الصيني" ضالته بل ملاذه مما كان ينظر إليه بوصفه "لعنة السيمفونية العاشرة" ولهذه اللعنة حكاية.
فمنذ كتب بيتهوفن سيمفونيته التاسعة وقضى من بعدها من دون أن يتمكن من كتابة عاشرة له، راح مؤلفو السيمفونيات يتساقطون من دون اجتياز أي سيمفونية تاسعة يكتبونها، وهكذا حين وصل الدور إلى ماهلر وكتب تاسعته الرائعة وشرع يكتب تالية لها، استنكف لخوفه، عن تسميتها بالعاشرة وسماها أغنية، لكنها كانت أغنية طويلة ذات افتتاحية وحركات وخاتمة، وضمت عن قصد تلك الأغنيات الصينية الأصل لتقدم من دون أي ذكر لكونها سيمفونية. وتقول الحكاية إن ماهلر ما إن ارتاح إلى هذا "الاحتيال" الإبداعي وشرع بعد ذلك في كتابة سيمفونية جديدة حتى قضى من دون أن يكملها!
الترياق في فرنسا المتفهمة
المهم، نعود هنا إلى "أغنية الأرض" سواءً اعتبرناها سيمفونية أو أغنية أو "عاشرة" قضت على صاحبها، لنتعامل معها كعمل أساس في تاريخ الموسيقى الرومانطيقية المبنية على الشجن والتي ختمت حياة وعمل ذلك الموسيقي الذي تعمد أن يجعل موسيقاه منذ عمله الذاتي الكبير الأول "نشيد رفيق متشرد" (1883) مبدَعاً فنياً ندر أن كان له شبيه في ذاتيته، ويرى باحثون كُثر أنه يفتتح دائرة في عمل ماهلر أتت "أغنية الأرض" لتقفلها، حيث يتشابه العملان في شجنهما ونهلهما من الطبيعة والموسيقى الشعبية إنما مع إطلالات فلسفية في بعض لحظاته الموسيقية ومنها مثلاً إطلالة ماهلر على نيتشه في سيمفونيته الثالثة.
خلال مسيرته العملية، عرف ماهلر كيف يقسم وقته بين الإبداع الموسيقي والعمل الإداري، كما على العمل في قيادة الأوركسترا. ونعرف أنه حُورب كثيراً في هذا الميدان الأخير بالذات، ما انعكس دائماً في طابع شكوى تراجيدي غلب على بعض أكثر لحظاته الموسيقية جمالاً، ليصل إلى ذروته في "أغنية الأرض"، حتى وإن كان الموسيقي قد تغاضى في بعض الأحيان عن آلامه الخاصة ليحاول أن يجعل من موسيقاه وسيلة للتبشير بعوالم سيظل يشعر فيها الإنسان بعظمته وتفوقه، ويصبح، في استعارة من نيتشه في سيمفونية "التيتان" على وجه الخصوص، إنساناً متفوقاً. ولعل من المناسب أن نذكر هنا كيف أن السينمائي فيسكونتي قد استخدم مقاطع من هذه السيمفونية تحديداً لـ"تزيين" مشاهد الكوليرا والموت التي ضربت المدينة الإيطالية الرائعة ذات لحظة من تاريخها وكأنه يستعير من ماهلر قوله "الإنسان والحياة رغم كل شيء"!
ولا بد من أن نذكر هنا أن ماهلر، ورغم كل أوروبيته التي كانت في الوقت نفسه أوروبية نيتشوية خالصة عمادها الإنسان المبدع وسعيه إلى الحرية ولامبالاته بالمرض والموت، ظل مجهولاً طوال حياته في معظم أنحاء أوروبا خارج النمسا وألمانيا اللتين كانتا ميدان تحركه وإبداعه وشهرته. وهو ظل مجهولاً في الخارج إلى حد كبير حتى عام 1910 الذي سبق رحيله بعام، حيث قُيّض له أن يتوجه إلى باريس ليقود بنفسه أوركسترا ضخمة عزفت أمام جمهور فرنسي مندهش سيمفونيته الثانية بشكل عجائبي. وكانت هنا انطلاقته العالمية ولو للشهور القليلة الباقية من حياته، هو الذي كان البعض ينظر إليه حتى في فيينا وبرلين بكونه مؤلفاً لأعمال خفيفة تكاد تكون ترجمة خطّية لأفكار تبسيطية، فإذا به يجد في فرنسا جمهوراً متفهماً له بشكل أفضل. ويقول برونو والتر إن الموت لم يمهله لكي يستفيد من تلك المكانة التي حظي بها في فرنسا، حيث لم يمض عامٌ على تلك الانبعاثة الباريسية التي عوّضته بؤس سنواته الأخيرة وآلامها حتى اختطفه الموت، وتحديداً قبل أن يشهد في وطنه انهيار كل ما كان قد آن به في حياته، انهياراً لم يعد ذاتياً بل صار عاماً.
بعض أضواء مشعّة لكلمة النهاية
مهما يكن، لا بد من القول هنا إن غوستاف ماهلر، بدلاً عن أن يكون موسيقياً كبيراً، كما كان حقاً في حياته، كان يريد أن يُعتبر مفكّراً كبيراً، وهو ما لم يقنع كثراً من متابعي عمله وحياته. وهو كان بالكاد قد بلغ الخمسين من عمره، حين لحن "أغنية الأرض"، وكان من الواضح أنه في ذلك الحين قد بات يشعر بدنو نهايته، وقد رحل فعلاً بعد أن أنجز هذا العمل الكبير، بأقل من عامين.
وُلد غوستاف ماهلر في عام 1860 لأبوين يهوديين ثريين من بوهيميا، وتلقى علومه الموسيقية في كونسرفاتوار فيينا، متأثراً خصوصاً بفاغنر وبروكنر.
بدأ حياته العملية قائداً للأوركسترا في مدن ريفية، ثم تولى إدارة "أوبرا بودابست الملكية"، وبعدها "أوبرا هامبورغ". وفي عام 1897 بدفعٍ من براهمز، أصبح مديراً لأوبرا فيينا، وخلال ذلك كتب أعماله السيمفونية والغنائية، وكان من أبرزها السيمفونيتان الثانية والرابعة، لا سيما أعماله التي كتبها، من منطلق روحي، بعد أن تخلى عن ديانته اليهودية واعتنق الكاثوليكية.
وفي عام 1907 بدا على ماهلر السأم من الوظائف التي يشغلها، فاتجه إلى الولايات المتحدة حيث تولى إدارة "متروبوليتان أوبرا"، وهناك استكمل عمليه الكبيرين: "السيمفونية التاسعة" و"أغنية الأرض". وقد مات ماهلر في عام 1911 مخلّفاً وراءه عدداً من أعمال لم تكتمل ناهيك بأعمال اكتملت من دون أن تقدّم أمام الجمهور. ومن هذه الأعمال، كما أشرنا، "أغنية الأرض" التي كان برونو والتر صديقه أول من قدّمها في فيينا عام 1911 بعد أشهر من رحيل مؤلفها، علماً بأن تقديمها بعد ذلك بعامين في لندن شكّل انطلاقتها العالمية الكبرى.