تميّزت المسيرة البشرية بمراحل معينة تستكملها قبل أن تبدأ مرحلة جديدة مختلفة عنها، وهذه المراحل قد ترتبط بحدث عالمي عام أو حرب ضروس، كما قد تقترن باكتشاف علمي أو اختراع جديد، فاختراع العجلة مثلاً غيّر أساليب الانتقال واستراتيجيات الحروب، كما أنّ اختراع الطباعة أدّى إلى نقلة نوعية ضخمة من عصر المخطوط إلى عصر الكتاب، كذلك فإنّ الحركة بالبخار ثم بالوقود ثم بالكهرباء ثم بالدفع الإلكتروني.
هذه كلها مراحل في تاريخ الإنسان على هذا الكوكب، وقد تندفع قوى لا أصفها بأنها شريرة، لكن أزعم بأنها خطيرة، إذ تحاول القفز على بعض المراحل والانتقال بالبشرية إلى ما لم تكن مستعدة له أو حتى راغبة فيه، ولذلك أسميها بسياسة حرق المراحل، أي انتقال العالم المعاصر إلى مشهد جديد من دون أن يستكمل المشهد الذي سبقه.
وأظن، أن ذلك ليس بعيداً عن كارثة كورونا التي شعرت بها كل أسرة، بل وكل فرد في الكون بأسره، وهذه القوى الخفية التي تتمثل في التحالف الصامت بين أجهزة الاستخبارات الكبرى والمؤسسات الاقتصادية الضخمة والاحتكارات الرأسمالية التي ترسّخت أدوارها أكثر من قرن من الزمان، فإذا بها تتحرّك تحت مظلة محافل معينة قد يكون منها بقايا (المحفل الماسوني)، وهي تفترض وصاية على العالم المعاصر وقدرة على التخطيط لمستقبله وتغيير ملامح وجوده، وها هي تضرب الإنسان في أمنه وأمانه.
وبالمناسبة فإنّ الأمان لا يقل أهمية عن الطعام، ولذلك قال الحق تبارك وتعالى (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فالخائف لا يبني، والقلق لا يعمل، وأولئك الذين يحرقون المراحل إنما يريدون أن يقتلوا الأماني، وأن يسرقوا مستقبل الأجيال.
لست أقول ذلك رجماً بالغيب، أو بدافع من هوس ميتافيزيقي غامض، لكن إيماناً مني بأن هناك قوى بشرية تعمل ضد البشر! وأن هناك كائنات تعيش معنا وتسعى لتدميرنا، لذلك فإننا يجب، من خلال التركيز على المعرفة والاستغراق في البحث العلمي والإلحاح على الاكتشافات الجديدة والاختراعات الحديثة، أن نبني عالماً تسوده الثقة، ويلفه الاستقرار، ويعيش فيه الجميع في أمان، ولعلي أبسِّط هنا بعض ملامح هذه الرؤية التي قد تبدو معقدة في بدايتها:
أولاً: إنّ الحديث عن الانفجار السكاني العالمي أمرٌ لا نشكك فيه، فالمليارات الجديدة من البشر لم تعد تتسع لها الأرض بما رحبت، وبدأنا ننقب في البحار والمحيطات، لكننا نشعر دائماً بندرة الموارد الطبيعية بالنسبة إلى الحاجات البشرية، وأصبح علينا أن نبحث في مخرج لأزمة الزحام البشري على الأرض، خصوصاً أن ذلك الزحام لا يتمتع بتوزيع متوازن ديموغرافياً أو طبوغرافياً، فهناك دول مكتظة بالسكان وأخرى تعاني الندرة، وتسعى إلى المزيد، لكن المحصلة النهائية هي ذلك التضخم المروع في أعداد البشر على كوكب الأرض.
وكانوا يدرسون لنا تحت عناوين نظرية (مالتوس) ثم (دوركايم)، أي أصحاب المدرسة المتشائمة في تحقيق الحجم الأمثل للسكان، أن الأمر يقتضي القبول بالحروب الطاحنة والأوبئة الفتاكة والأمراض المتوطنة، لأنها تسهم في مجملها في تخليص البشرية، بشكل عشوائي، من الزيادة السكانية المهولة التي تلتهمها، لكي نصل إلى توازن سكاني يتناسب مع موارد اليابسة والبحار والأنهار، فإن الأمر يقتضي وجود نظرة شاملة يسعى بعض أصحاب النظرية الجديدة للوصول إليها، حفاظاً على بقاء الكون واستمرار الحياة، وقد يكون ذلك مقبولاً من الناحية العقلية والواقعية، لكنه يحتاج إلى إطار إنساني وأخلاقي يضع الحدود ويرسم الضوابط.
نعم. إننا نعاني أزمة غذاء وطاقة وأزمة مياه وتراجعاً في خصوبة التربة وتلوثاً في البيئة، بل وتغييرات مناخية مخيفة تؤدي إلى تزايد نحر البحر وانكماش اليابسة، ولكن ذلك كله لا يبرر الجرائم في معامل الأبحاث ومراكز الدراسات البيولوجية لتخليق أوبئة جديدة، وإطلاق فيروسات لم تعرفها البشرية من قبل، وذلك في إطار الحرب الفيروسية، وقد أكون مخطئاً لكن ليس كل الظن إثماً، فأنا أرى أن هناك من يقفزون على الواقع، ويحرقون المراحل بقصد أو بغير قصد.
ثانياً: إن الحياة تقوم على توازن بيولوجي وثبات أيديولوجي في الوقت ذاته، ودورة الحياة لا تقف عند الإنسان وحده، لكنها تمتد إلى الكائنات الأخرى من حيوان وطير ونبات، بل وجراثيم وميكروبات وفيروسات أيضاً، وهي كلها ذات محصّلة واحدة تدفع بأنفاس الحياة، وتزاحم في الوجود، وتأبى إلا أن تعيش جنباً إلى جنب مع غيرها، ولكل منها وظيفتها، ولقد قال علماء الأحياء منذ مئات السنين إن كل كائن في الوجود ميسرٌ لما خلق له، لذلك فإنّ التعايش المشترك بين كل الكائنات من أعلاها إلى أوسطها هو جزء من قانون الحياة التي لا نستطيع رفضها أو الالتفاف حولها، لكن يبقى الإنسان هو خليفة الله في الأرض والوديعة الكبرى للطبيعة منذ حدوث الانفجار العظيم وميلاد الخلايا البدائية للحياة البشرية.
ثالثاً: إنني لا أخفي قلقي مما يجري في معامل البحث، خصوصاً في الدراسات البيولوجية ومدى وجود كوابح أخلاقية للوقوف عند حد معين في ما تصل إليه الأبحاث في ظل نشوة العلم وزهوة الاكتشاف الجديد، إن فيروس كورونا دقّ الجرس وبعث بالإنذار المبكر لمخاطر محتملة تنتظرها الحياة البشرية، فالإنسان الذي شيّد وبنى هو ذاته الذي هدم وأفنى، إنه يحمل جينات بقائه كما يحمل جينات فنائه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رابعاً: إن الوجود يقوم على نظريات ليست كلها بشرية بالضرورة، لكن الطبيعة لعبت فيها دوراً أساسياً منذ البداية، فليست كل الحشرات ضارة، وليست كل النباتات مفيدة، وليست كل الحيوانات مفترسة، لكن الله اختص الإنسان بميزة العقل، فجعل له وضعاً خاصاً، لكن الإنسان يريد أن يتجاوزه ويقفز إلى المستقبل في نقلات انتحارية تنطبق عليها تماماً نظرية حرق المراحل، والإنسان العادي، مثل رجل الشارع في كل مكان، يبدو وكأنه ضمن مجموعة الأيتام على مائدة اللئام، وكأنما لا حول له ولا قوة يتلقّى التعليمات في الوقت المناسب بأن الزم بيتك وإلا خطر الموت المحتمل، لكن من الذي أوصلنا إلى ذلك؟ ومن الذي لم يحمنا من ذلك الخطر؟ فهذا أمر آخر لا يفضّل أحد الرد عليه.
خامساً: إن الشعوب الفقيرة بدأت تشعر أن المخاطر المقبلة لا تقوم بعملية انتقاء، فلا هي تحمي الأثرياء ولا تحصّن الأغنياء، لكنها تتجه إلى الجنس البشري كله من دون تفرقة أو استثناء، ولقد اندهش كثيرون مما فعله فيروس كورونا في الدول المتقدمة، فهو الذي عبث بإيطاليا، وهزّ مدينة الضباب، وجعل نيويورك مسرحاً للموت، بينما توجد دول أخرى لم ينل منها، فلقد علمت أن دولة عربية أفريقية شقيقة هي (موريتانيا) عزلت نفسها عن الفيروس اللعين، ولم تتأثر به وكأنما هي رسالة من الخالق أنه يحمي الضعفاء، ولا ينحاز إلى الأقوياء، كما أن فيها تأكيداً بأن الجنس البشري نسيج واحد، ليس فيه متميزون ومقهورون، ليس فيه سادة وأتباع، لكن فيه مخلوقات مشتركة يصعب التمييز بينها أو التفرقة بين أنواعها.
إنني أقصد من السطور السابقة، أن أعبِّر عن بعض أوهامي، وهي مع الأسف أوهام تلقى قبولاً لدى كثير ممن يشتغلون بالفكر، ويتعاطون السياسة، ويعملون في مجالات علوم الإنسان والدراسات المعنية بشؤون الكون ومستقبل الوجود، وأنا على يقين من أن نزعة الحياة سوف تغلب على شبح الموت، وأن إرادة الوجود أقوى من عوامل الفناء!