في ركن منزوٍ بحي عبد الكافي على الطرف الشمالي لمدينة سبها جنوب ليبيا، يقع سجن من نوع غريب، سجن يختلف تماماً عما عهدناه من السجون النمطية، إنه سجن (إحميدة)، وهو اسم المهرّب الذي افتتح هذا السجن ويديره، وهو مخصّص للمهاجرين والمهاجرات الذين يعاقبون لأخطاء ارتكبوها في تعاملهم مع المهرّبين، كما يحتجز فيه ضحايا الاتجار بالبشر، ذلك السجن السيء الصيت يعجُّ بقصص الضحايا رجالاً ونساء.
داخل السجن... مأساة سنين
بعد تفاوض مع المهرّب سمح لنا بدخول مملكته والحديث مع إحدى المحتجزات هناك، فاطمة الفتاة الأفريقية ذات التسعة عشر ربيعاً، تبدو نحيلة الجسم بشكل ملفت حتى إن عظام وجهها بارزة، وعينيها غائرتان، ترتدي ثوباً يبرز نحول جسمها، تظهر منه ساقاها ويداها وكأنها عظام مكسوة بالجلد لا لحم فيهما.
كانت تنظرُ إلينا بشيء من الريبة، فهي تعتقد بأن كل من يتحدث مع المهرّب سيكون مثله، ولكنها تحدثت بعد أن اطمأنت بعض الشيء عن ظروف احتجازها في هذا السجن، وعرّفتنا على أقسامه وأجزائه وكيف تسير الحياة بداخله "الأسوار قصيرة والنوافذ مفتوحة والأسقف متشققة ولكننا لن نهرب من هذا المكان"، هذا ما تردّده فاطمة على الدوام، فسبل الحياة في الخارج ضئيلة وتكاد تكون معدومة، فهي لا تعرف أحداً في الخارج، ومن السهل العثور عليها إذا ما فكرت في الهروب، وسيكون من السهل حينها إعدامها كما يحدث مع القلائل الذين تمكنوا من الفرار.
مهمة الإشراف على السجن موكلة لأفارقة
دخلنا إلى وسط السجن تصحبنا فاطمة، وهو عبارة عن منزل كبير وقديم، توجد في البداية ساحة كبيرة تفتح عليها غرف عدة للمشرفين، وهم غالباً ما يكونون من المهاجرين الأفارقة، ووفق ما تقوله فاطمة فالمشرفون "شديدو المراس، ولا يملكون أدنى درجات الرحمة، ومعظمهم يمارس القتل والتعذيب"، تتحدث الفتاة معنا وهي تتحاشى النظر إلى المشرفين على الرغم من بعد المسافة التي تفصلنا عنهم، تقول إنهم كانوا أول من استقبلوها في هذا المكان الذي تُحتجز فيه منذ أشهر.
الدعارة أو الموت
مع اقتراب صيف 2018 دخلت فاطمة إلى ليبيا عبر الصحراء بصحبة عدد من المهاجرين الآتين من مالي، وعند وصولهم إلى مدينة القطرون أولى المدن الليبية من ناحية الجنوب، وأجْبِرت على ممارسة الدعارة مع عدد من المهاجرين، لسداد ما قيمته 2000 دينار ليبي أي حوالي 400 دولار، تقول "لم أعلم لماذا فُرِض عليَّ هذا المبلغ، ولكنني لم أستطع الرفض في بادئ الأمر خصوصاً أنني لا أعرف البلاد جيداً، كان عليَّ أن أكون مطيعة بعد أن شاهدت القتل أمامي".
تواصل حديثها وهي تدخل معنا الممر الرئيسي داخل السجن، وهو ممر غير مسقوف تفتح عليه ست غرف من الجانبين، أرضيته متسخة ورائحته غريبة، تضيف أنها دخلت السجن هنا بعد أن رفضت الاستمرار في العمل بالدعارة أوائل أغسطس (آب) 2018، وعادةً ما تُحتجز الفتيات هنا لفترات مجهولة لتأديبهنّ حسب ما سمعته في السجن.
مصير غامض لمن يدخلنَ هذا السجن
تسمع الأخريات من المحتجزات في السجن حديثنا مع فاطمة فيسترقن النظر من نوافذ حجراتهنّ المطلة على الممر، لم نتمكن من الحديث إليهنّ، فهنّ لا يملكن الإذن بذلك، تواصل فاطمة حديثها عن قصص اللواتي غادرنَ هذا المكان إما موتاً أو بيعاً أو إخلاء سبيل، ليواصلنَ هجرتهنّ إلى الشمال، أو إلى أحد بيوت الدعارة. تحدثت عن إحدى المحتجزات التي توفيت قبل يومين في عملية إجهاض على يد مُعَالِجة شعبية، وعن أخرى لفظت أنفاسها وهي تضع مولودها داخل السجن، ومحتجزة فقدت عقلها بعد أن طال حبسها في سجن انفرادي.
داخل زنزانة فاطمة
وصلنا أخيراً إلى الزنزانة التي تقيم فيها فاطمة، وهي حجرة صغيرة لا يوجد فيها أسرّة أو أغطية أو فرش، إضاءتها ضعيفة في شكل تصبح معه الرؤية صعبة كلما توغلنا فيها. جلستْ على الأرض مستندة إلى الحائط ولم تهتم بأن تدعونا إلى الجلوس، تواصل حديثها عن سجنها قائلة إن المهرّب أجبرها على شرب الكحول وإدمان حبوب مخدرة لم تعرفها "صرتُ أقوم بأشياء غريبة، أحياناً يناديني في الصباح ليريني مقاطع فيديو لي بالليل، وأنا أشاهدها وأستغرب الذي أراه"، ينتابني الحزن وأنا أتعرض لهذا كل يوم ولا خيار لي في ذلك. حين سألتها لماذا لا تهربين؟ قالت بتهكم "إلى أين أهرب؟ أنا لا أعرف أحداً في هذه المدينة، وسيكون العثور عليَّ سهلاً للغاية، وقد يكون عقابي الموت".
في السجن الموقت الذي يعرف في المدينة باسم صاحبه، تعيش 29 فتاة وشابان، عدا المشرفين المسؤولين عن سير الأمور في الداخل، وجميعهم من جنسيات أفريقية مختلفة، كان المهرّب سعيداً بوجود كل هؤلاء المحتجزات في سجنه، وكان يتحدث عنه بفخر وكأنه يصف مؤسسة متكاملة.
مهام لكل شخص
مهام المشرفين تتوزّع على واحد يسجل المحتجزات، وآخر يوفر لهنّ الرزّ وهو الطعام الوحيد الذي يحصلن عليه، ومشرف يتابع تنفيذ العقوبات التي تصدر بحق المخالفين، ومجموعة تختص بتنفيذ الأعمال الخارجية من جلب وتهريب المهاجرين ورمي الجثث، انتهاءً بالمعالِجة الشعبية وهي مهاجرة من النيجر مسؤولة عن عمليات الإجهاض والكشف عن الحوامل والفتيات العذراوات، ولا يتمتع السجن بأية شروط تسمح باستخدامه من قبل البشر.
آمال تتجّدد بالقضاء على سجون المهربين
عميد المجلس البلدي لسبها حامد الخيّالي نفى علمه بكل ما يحدث داخل تلك الأوكار، موضحاً أنها تقع في أماكن لا سيطرة لأجهزة الدولة عليها، وهو واقعٌ بدأ يتغيّر مع دخول الجيش إلى المدينة، والذي أعلن صراحة أنه سيقضي على كل أوكار التهريب فيها، مضيفاً أن عمليات التهريب قلّت في شكلٍ واضح منذ دخول القوات المسلحة إلى الجنوب في 18 يناير (كانون الثاني) الماضي. في الحيّ، لا يكترث السكان المجاورون للسجن بما يحدث في داخله بقدر خوفهم من انتشار الأمراض بسبب كثرة ارتياد المهاجرين الأفارقة إلى المكان، ويعتقد السكان المحليون بأن المهاجرين الأفارقة ينقلون الأمراض لذا يأنفون من الاختلاط بهم. التقينا أحد الساكنين في جوار السجن أبو القاسم بوصلاح الذي روى عن الكثير من الليبيين الذين يأتون بفتيات أفريقيات أو العكس، يقول إننا نسمع الصراخ والكلمات النابية على الدوام، حتى بعد أن حادثنا بعض هؤلاء، لم نجد منهم حلاً لهذه المأساة.
شرطة المدينة تستعيد نشاطها
مدير مديرية الأمن الوطني في سبها الساعدي إمحمد تحدث عن ضعف إمكانات أجهزة الشرطة ودورها في مراقبة هذه الأماكن وضبطها، وقال إن المهرّبين صاروا يملكون أسلحة أكثر تطوراً، كما تحميهم منظومة قبلية يصعب تفكيكها في ظل ضعف الدولة في شكل عام، ولكن مع دخول الجيش والبدء بعملية تطهير الجنوب، صارت وحدات الشرطة أكثر قدرة على التحرك لمحاربة هذه الأماكن وملاحقة من تورّط في إقامتها، كما أن الشرطة تعمل على هذا الملف بالتنسيق مع جهاز إدارة مكافحة الهجرة، الذي استأنف عمله أيضاً بعد دخول الجيش.
ووفق مصادر من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، فإن ظروف الاحتجاز غير القانوني لضحايا الاتجار بالبشر غير إنسانية، ويطالب دوماً بالإفراج عنهم والسماح لهم بالكشف الطبي ومعاقبة مرتكبي مثل هذه الجرائم التي لا تسقط بالتقادم.
فاطمة تريد حلاً
تركنا فاطمة جالسة في زنزانتها تنتظر مصيراً مجهولاً، فحلمها بالوصول إلى أوروبا اصطدم بواقع مرير تعيشه محتجزة في سجن جنوب ليبيا، وصارت تقنع بالسلامة وتتمنى أي تغيير لا يتضمن البقاء في ليبيا حتى ولو كان العودة إلى بلدها.