Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سيكولوجية كسر الحظر" ظاهرة توحد شعوب الأرض

طبيب نفسي: شعور بالنقص... والحشود تشعر الضعفاء بالقوة المزيفة... والمخالفون بحاجة إلى التوعية والحزم

مصر فرضت حظر التجول الليلي تجنبا لتفشي وباء كورونا (حسام علي. اندبندنت عربية)

بينما العالم مفعم بكمّ هائل من المبادرات الشبابية الخيرية، والدعوات العنكبوتية الإبداعية، والمقترحات العملية والأدبية لـ"تحدي الحظر"، حيث تقديم المساعدات لمن يحتاجها، والكشف عن المواهب لمن يمتلكها، والمساهمة بطرح بدائل لمن يبحث عنها، يقبع عالم آخر تماماً في جبهة مضادة تحمل الراية نفسها "تحدي الحظر".

الحظر بأنواعه، الكلي والجزئي، الإجباري والاختياري، فرض على الكوكب ثقافة جديدة تماماً يمكن تسميتها بـ"ثقافة الحظر". وفي الوقت الذي يتصور فيه البعض أن المعنى الوحيد لها هو البقاء في المنزل، وأن المقصود الوحيد بها هو عزف الموسيقى عبر الشرقة للترفيه عن الجيران، أو عقد "حفل مشاهدة افتراضية تجمع الأهل والأحباب" افتراضياً، بينما كل في موقعه، أو عرض المساعدات للتسوق لمن تحول ظروفه دون ذلك بنفسه، في الأوقات المسموح فيها بالتجول المحدود، يشطح البعض الآخر بـ"تحدي الحظر" نحو آفاق أسطورية وتصرفات جهنمية.

الحظر على الشاطئ

جهنمية الفكرة التي تفتق عنها ذهن شاب في مدينة الغردقة الشاطئية المصرية لتحدي الحظر أدت به إلى التخفي داخل ورق مقوى متقمصاً دور "كرتونة" إلى أن وصل للمتجر (السوبر ماركت) المقابل لبيته، جعلت منه مثار سخرية ملايين المصريين بعدما تداول جيرانه فيديو له على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يعبر الشارع بحنكة شديدة، وكأن الرياح تعصف بـ"الكرتونة".

ومن "الكرتونة" العاصفة إلى المقهى السري؛ "القهوة" بالتعبير المصري، حيث تكتيك وتخطيط على مستوى عالٍ من الحنكة، وقدر بالغ من الفطنة. شقة سكنية في الطابق الأرضي تم توصيلها بالمقهى المتاخم لها عبر مدخل سري. وقبل سريان وقت الحظر الرسمي في السابعة مساء، يتوافد الزوار إلى الشقة، ومنها عبر المدخل إلى المقهى حيث رفع شعار "العمل كالمعتاد"؛ مشاريب ساخنة، وأخرى مثلجة، شاشة تلفزيون تعرض ما لذ وطاب، وشيشة، وطاولة، وورق لعب (كوتشينة)، ودومينو، وكأن الحظر لم يكن.

فلسفة الحظر

لم يكن أحد يتخيل توارد الخواطر الذي حدث على مستوى مصر الأسبوع الماضي. فالفكرة التي طرأت على بال أسرة في القاهرة للتوجه إلى وحدتها الشاطئية في مدينة العين السخنة (تبعد عن القاهرة 130 كيلو متراً) لقضاء يومي إغلاق كل المحال بحسب القرار الرسمي، وهما الجمعة والسبت، طرأت على بال آلاف الأسر التي وجدت نفسها على الشاطئ متلاصقة متلاحمة مع الآلاف غيرها. صحيح أن أغلب الأحاديث أثناء تناول الشاي والقهوة والاسترخاء في الشمس دارت حول كورونا وأخطارها ونظرياتها، إلا أن واقع المشهد يشير إلى أنه تم ضرب فلسفة الحظر عرض الحائط، عبر التحدي الكامن للبعض في كسره الذي يحتاج إلى تفسير وتحليل نفسي.

بعد اجتياز مرحلة عدم التصديق لفرط العجب. اندهش هشام، القاطن بالعمارة الواقعة في شارع شبرا (شمال القاهرة)، وهو يرى مجموعات الصبية ينادون على بعضهم البعض في الشارع لبدء "مباراة الحظر". كانت الساعة تقترب من السابعة مساء، وقت سريان الحظر. سأل مجموعة منهم كانت تعد عدة المباراة عند مدخل العمارة الجانبي والمطل على شارع ضيق، "أليس هناك حظر؟ وجودكم في الشارع يعرضكم للمساءلة القانونية". نظر الصبية لبعضهم البعض، وكتموا ضحكاتهم الساخرة، ثم رد أحدهم، "الحظر في شارع شبرا الرئيس. أما هذا فشارع جانبي لا يسري عليه الحظر". سأله هشام: "الحظر يسري على كل شارع وحارة في جمهورية مصر". رد أحدهم، "هنا ليست جمهورية مصر. هذه جمهورية شبرا".

حس الدعابة مطلوب، وروح السخرية من أدوات البقاء على قيد الحياة، لكن حين تفرض الكوميديا نفسها في زمن التراجيديا تأتي النتيجة وبالاً على الجميع. جهود هشام للمتابعة مع الأهل، أسفرت عن ردود تراوحت بين "العيال ملت الجلوس في البيت" و"ربنا حاميهم" و"كلها ساعتين أو ثلاث وينصرفوا ويعاودوا الحظر".

معاودة الحظر بعد فكه يومياً لبضع ساعات أو دقائق تضع الحظر نفسه في مهب الريح. لكنها تضع أيضاً الأدمغة المبررة له في خانة الاتهام بالبلادة حيناً، والوصم بانعدام الشعور بالمسؤولية المجتمعية حيناً، والعلة النفسية أحياناً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إنكار وخطورة

الأكاديمي المتخصص في الطب النفسي محمد مهدي يقول، "إن ما نراه حولنا من قِبل البعض حيث تهاون أو تقاعس أو سخرية أو إهمال في شأن التعامل مع خطر فيروس كورونا، يحتمل تفسيرات عدة. هناك فئة تنكر خطورة الموقف برمته، وترى الفيروس هيناً وبالتالي تعتبر مسألة الحظر أمراً سخيفاً ثقيلاً لا داعي أو مبرر له. وتستهين بفكرة ارتداء الكمامة والقفازات واتباع قواعد التعقيم والتطهير. ولأن أفراد هذه الفئة ليست لديهم معلومات وافية أو كافية عن الفيروس وخطورته، فإنهم يعتقدون أن عدم الالتزام بالحظر أو قواعد التأمين من كمامات وقفازات وغيرها لن تضر أحداً".

يستطرد مهدي مفنداً التركيبة النفسية لهذه الفئة بقوله، "هؤلاء تراهم يقيمون حفلات الأفراح في البيوت بعد تعليقها في القاعات، وكأن المناسبة السعيدة في البيوت وتجمع العشرات، وربما المئات تحت سقف واحد كفيلة بطرد الفيروس".

سعادة الميت غامرة

المنهج نفسه ولكن بشكل آخر يسري على من يصرون على إقامة صلاة الجنازة، وتلقي العزاء في متوفاهم من منطلق أن الدفن "السكيتي" وصمة وفضيحة. تسأل أحدهم عن سبب خرق الحظر المفروض على التجمعات، بما فيها إقامة الصلوات في دور العبادة، فيرد بأن "الدقائق القليلة للصلاة والعزاء ستسعد الميت".

تعلق الطبيبة البشرية فاتن عبد الجليل، بقولها، "إن سعادة الميت ستكون غامرة حين يلحق به أحبابه وأصدقاؤه الذين قد يلتقطون العدوى في أقل من دقيقة أثناء تكدسهم بالصلاة أو العزاء". تتعجب وهي تطالع خبراً عنوانه "عزاء بدون مصافحة بقرية في محافظة الشرقية خوفاً من كورونا". تقول، "المصيبة أن الخبر مكتوب بشكل جعل إقامة العزاء الذي حضره المئات، كما يبدو من الصورة، مع اكتفاء المعزين برفع أياديهم في الهواء بديلاً عن المصافحة، وكأنها مبادرة إيجابية".

إيجابية التعامل الشعبي بشكل عام مع خطر كورونا والامتثال إلى القرارات والقواعد والإجراءات المتبعة، رغم شدتها يستوجب التحية. لكنها تبقى تحية منقوصة في ضوء الاستثناءات الشعبية التي يتفتق عنها ذهن البعض، وكأن التحديد المسبق لحفل الزفاف أو الوفاة الفجائية لقريب تستثني الموجودين من التقاط العدوى.

نية خرق الحظر

التقاط العدوى الوارد حدوثه في غمضة عين لن يتوقف للتحقق من نية خارق الحظر. يقول مهدي إن "دفاع الإنكار" الذي يدفع البعض لخرق الحظر ظناً أن الفيروس ليس خطيراً، وأنهم في مأمن يعني أنهم يميلون إلى عدم تصديق درجة الخطورة. وهؤلاء يحتاجون إلى مزيد من التوعية مع الحزم والحسم في تطبيق عقوبات الحظر.

"محضر اختراق حظر السير"، عنوان نموذج تحرير محاضر الخرق في مصر. يشتمل النموذج على أسئلة عن أسباب وجود المخترق في الزمان والمكان المذكورين، وأقواله فيما هو منسوب إليه من مخالفته أحكام قرار رئيس مجلس الوزراء بحظر التحرك أو الانتقال على كافة الطرق من السابعة مساءً إلى السادسة صباح اليوم التالي بدون احتياج طارئ".

لعنة المؤثرين على التواصل الاجتماعي

تأثر بعض المراهقين بالمؤثرين والمؤثرات على مواقع التواصل الاجتماعي دفع مجموعة منهم إلى خرق الحظر في أحد شوارع حي الدقي بالقاهرة. نزلوا إلى الشارع في نحو التاسعة مساءً وأخذوا يصورون أنفسهم موثقين لحظات خرق الحظر على تطبيق "تيك توك". ما يوحي بأن لعنة نجوم مواقع التواصل الاجتماعي تمكنت من كثيرين، لكن لحسن الحظ أن درجة التمكن التي تدفع لضرب قواعد الحظر عرض الحائط، والهادفة إلى حماية الملايين، لا تزال بعيدة عن تصنيفها "جائحة".

خرق القوانين

فيروس إدمان خرق القوانين والقواعد عمرها عقود، وليست وليدة كورونا المستجد. يقول مهدي، إن هناك فئة أخرى من هواة ومحترفي خرق الحظر. "هذه تركيبة نفسية لدى البعض، يميل أصحابها إلى الإقبال على فعل الممنوعات طالما هي ممنوعة، ولو تم السماح بها، تفقد جاذبيتها. بعضهم يبحث عن روح المغامرة، والبعض الآخر يتصور أن ما يقوم به عمل بطولي يجذب الانتباه ويحقق الإعجاب. ويجمع بينهم كذلك الشعور بالنقص لأسباب مختلفة". وبين هؤلاء من يفتقد في حياته الشعور بتحقيق الذات أو الأهمية، ما يجعله يبحث عما يفتقده بالخروج عن المألوف والمفروض. هؤلاء يظنون أن نزولهم الشارع وقت الحظر، أو تهريبهم عبر باب سري لمقهى مغلق، هذه الفئة خطر على المجتمع، لأنها تكون جسراً يعبر عليه الفيروس إلى أعداد أكبر دون أي إجراءات احترازية أو اتخاذ ما ينبغي أخذه من حذر".

ترى إيفلين جورج، 38 عاماً، صاحبة محل مخبوزات في مدينة الشروق القريبة من القاهرة، أن "الحذر لا ينجي من القدر. تتقاضى الأموال من العملاء وترتدي قفازاً في يد واحدة. تقول إنها مجبرة على ارتدائه بعدما اعترض العديد من العملاء لعدم ارتدائها ما يقيهم ويقيها شرور الفيروسات الممكن تناقلها على أوراق البنكنوت. تبتسم ابتسامة غريبة وتقول، "ما الذي يمكن أن يحدث غير المكتوب؟"، وبسؤالها عن سبب الابتسامة الغريبة في هذا الموقف تقول، "إنها ابتسامة المؤمن المُسلِّم أمره لربنا".

التوكل والتواكل

ربنا الذي أمرنا بالتعقل قبل التوكل، لن يرضيه بكل تأكيد توكل وتواكل البعض، فيما يختص بانتشار الفيروسات القاتلة. هذا الشعور الذي يجتاح البعض بالتسليم بالقضاء والقدر، والخلط بينه وبينه اتخاذ الحذر موجود لدى فئات عمرية مختلفة.

يقول مهدي، "إن هناك من الشباب من تخالطه مشاعر الإحساس بالقوة في مواجهة الأمراض، وفي الوقت نفسه التسليم بأن القدر لا يمكن توقيفه أو تحويل دفته. ويشترك معهم في الجزئية الأخيرة الخاصة بالقدر بعض كبار السن، لا سيما في حال إصابتهم بأمراض مثل القلب أو السكري أو غيرها، حيث البعض منهم يكون أقل حرصاً لأن فكرة دنو الأجل تسيطر عليهم. ورغم ذلك، هناك بين كبار السن من يخاف على نفسه وصحته، بل منهم من ينتابه الهلع من الأمراض، فتجده يفرط في الحفاظ على نفسه وصحته".

صحة جسدية ونفسية

وإذا كانت الصحة الجسدية لا تستوي دون الصحة النفسية، وإذا كان جانب من الصحة النفسية لا سيما في الثقافات الشرقية يستقي كيانه من الدين والإيمان، إلا أن الاستجابة لدعوات المشاركة في مسيرات حاشدة مناهضة للفيروس ليس من الدين أو العقل في شيء.

 يذكر مهدي المتخصص في الطب النفسي، "أن الوجود في تجمعات كبيرة يعطي الأفراد الشعور بالقوة. سيكولوجية الحشد تحدث عنها الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الشهير (سيكولوجية الجماهير)، حيث الحشود والثورات والجماهير المتلاصقة، تجعل الفرد يشعر بقوة كبيرة قد لا يكون لها وجود حقيقي".

يشبّه مهدي، استجابة الأفراد لدعوات المسيرات بأنها أقرب ما يكون إلى الشخص الجبان، أو الذي يعاني مخاوف معينة يكتسب شعوراً كاذباً بالقوة وعدم الرهبة، ويصبح أكثر جرأة وإقداماً بفعل وجوده وسط حشود غفيرة. هذا الشعور بالمعية قد يكون جيداً ممتعاً من الناحية النفسية، لكنه حين يشعر أن وجوده إلى جوار الآلاف غيره كفيلٌ بوقايته من التقاط عدوى، فإن ذلك يعني أن الشعور زائف ومميت".

فرق كبير بين شخص يخرج إلى شرفة منزله أثناء الحظر ويعزف موسيقى، أو يغني، أو يكبر، ويشاركه ذلك آخرون ممن يسكنون إلى جواره، كل عبر نافذته أو شرفته، وبين أن تنزل هذه الجماهير الغفيرة لتلتصق ببعضها البعض في الشوارع لتهتف ضد كورونا.

الخرق الأممي

سيكولوجية خرق الحظر وكسره أممية، شأنها في ذلك شأن الفيروس المراد تطويقه، عدواه لا تعترف بالحدود، ولا تأبه باختلاف ثقافات، أو خلافات أديان، أو رضا الله أو غضبه على جموع الناس. في بريطانيا، خطوط هواتف الشرطة لا تتوقف عن الرنين من متصلين يبلغون عن جيرانهم بأنهم يخترقون الحظر. وفي إيطاليا، تم رفع غرامة كسر الحظر إلى خمسة آلاف يورو. وفي الهند، الشرطة تضرب المصلين في جماعة. وفي فرنسا، تمت مضاعفة الغرامة من 35 إلى 135 يورو مرشحة للوصول إلى 375 يورو لأن هناك من لا يلتزم. بينما تفرض ألمانيا غرامات على خارقي الحظر. وفي دول عربية، أبدع عشاق كسر القوانين والقواعد في خرق الحظر تارة بكرتونة، وأخرى بكيس قمامة، وثالثة بالهروب عبر أبواب سرية للوصول إلى المقهى، وليس أخيراً توجه الجموع إلى الشاطئ لقضاء أوقات الحظر، واستجابة جموع أخرى لدعوات التظاهرات، وتعلية صوت الهتافات "الموت لكورونا" في وقت لا يزال الحظر سارياً، ولا يزال خرقه ذائعاً.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات