"إخواني في الله، التزامكم بالبقاء في المنازل سلامة لكم، وطاعة لولي أمركم. الالتزام بالتعليمات وقاية لكم ولمجتمعكم". هكذا أعادت الشرطة الدينية في السعودية (الهيئة) عصور الجدل الخوالي إلى ساحة التداول بين الشباب السعوديين عقب دخولها على خط التوعية الصحية لمكافحة كورونا من خلال إطلاقها مبادرة "وليسعك بيتك".
يأتي هذا بالتزامن مع مضي 4 سنوات، غابت فيها الهيئة، واسمها الرسمي "الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، عن أدوارها التي لطالما أثارت جدلاً من المطاردات واستجواب الأشخاص، بما قيل إنه أدى إلى تصاعد رفضها اجتماعياً، قبل أن تبادر السلطات إلى تحجيمها رسمياً في سياق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.
وذلك وفقاً لنظام صدر عن مجلس الوزراء في 2016، حدد مسؤولية الهيئة في "القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إليه بالرفق واللين، مقتدية في ذلك بسيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين من بعده مع استهداف المقاصد الشرعية، والإسهام مع الجهات المتخصصة في مكافحة المخدرات، وبيان أضرارها على الأسرة والمجتمع"، ونزع منها عملياً سلطتها التي كانت محل جدل في الماضي، وهي "إجراءات الضبط الجنائي والإداري والتحفظ والمتابعة والمطاردة والإيقاف والاستجواب والتثبت من الهوية والتحقيق والقبض"، الذي غدا منذ ذلك الحين مقصوراً على السلطات الأمنية في وزارة الداخلية وحسب.
مكافحة الفيروس "واجب شرعي"
ووظفت الهيئة أسطولها من السيارات ذات الدفع الرباعي في الانتشار على امتداد مناطق السعودية، لتقدم ما يصفه رئيسها عبد الرحمن السند من خلال المشاركة بالتوعية بـ"ضرورة الأخذ بالإجراءات الوقائية المتخذة من قبل الجهات الصحية المختصة، للحفاظ على واحدة من أهم الضرورات الخمس وهي (النفس)".
ولفت السند، إلى أن شعار المبادرة "وليسعك بيتك"، هو اقتباس من حديث نبوي شريف، يُقرن السلام بلزوم البيت في مثل هذه الظروف، معتبراً الجهود التي تبذلها سلطات مثل وزارة الصحة والهلال الأحمر السعودي، تتفق مع قيم الشريعة والأمر بالمعروف، التي جُنّدت الهيئة للتوعية بها، ومراقبة تطبيقها وتلقي البلاغات المتعلقة بالأخلاقيات مثل "الابتزاز، والسحر والشعوذة" والسلوكيات المخالفة لقيم المجتمع، لكنها غير مخولة سوى بإشعار مراكز الشرطة والأمن بذلك، خلافاً للسائد في الماضي.
لكن التنظيم الذي أنهى دور الهيئة القديم، لم يمنع لجنة الشؤون الإسلامية في مجلس الشورى السعودي (البرلمان) 2019 من محاولة الالتفاف على التدابير، التي قيّدت من صلاحيات الهيئة، عند اقتراحها توصية في المجلس تدعو إلى "دعم هيئة الأمر بالمعروف وتعزيز دورها الوقائي الميداني والبرامجي، الذي تقوم به، وفق تنظيمها لضبط السلوك العام ورعاية قيم المجتمع". إلا أن المجلس رفض في نهاية المطاف عرض التوصية، بعد أن أثير حولها لغط، دفع إلى التكهن من جانب البعض بأن "الهيئة ستعود إلى سابق عهدها"، مما فُهم على أنه مراجعة للنهج الإصلاحي الذي كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قطعه لشباب بلاده والمجتمع الدولي.
الخشية من عودة الهيئة
واعتبرت الكاتبة السعودية هيلة المشوح آنذاك، أن التوصية وإن صدمت الكثيرين، إلا أن قراءتها كانت بأن الطريق الذي سارت فيه البلاد لا رجعة عنه.
وأكدت في مقالة لها في صحيفة "عكاظ" السعودية، أنها لم يساورها الشك مطلقاً في توجهات الدولة في "حفظ استقرار المجتمع وأمنه الذي حتّم على رأس الهرم في يوم ما بتنظيم عمل الهيئة، والحد من صلاحياتها، وفقاً للقرار الملكي الذي صدر آنذاك. وكان قراراً صائباً وشجاعاً أنهى حقبة من تجاوزات هذا الجهاز، الذي مارس بعض أعضائه القمع والمطاردات والإيذاء والتجسس على خصوصيات الناس. فبعد هذا المشوار الطويل الذي قطعناه للأمام هل يجدر بنا الشك بأننا سنعود للخلف وتتم إعادة جهاز الهيئة بكافة صلاحياته؟ فليسمح لي كل من شكك في هذا الأمر بأنه لم يع بعد تطلعات الدولة وتوجهاتها والحقبة الواعدة التي نحن مقبلون عليها".
في الجهة المقابلة، كانت توصية مزدوجة في 2018 نادت بإعادة النظر في دور الهيئة، قدمها عضوا المجلس لطيفة الشعلان وعطا السبيتي، دعت إلى درس دمج الهيئة في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، قبل أن تُرفض هي الأخرى من اللجان الاستشارية بالمجلس لعدم نظاميتها، حسب قولهم.
وفي أوج سلطة الهيئة في الفضاء العام والخاص في 2013، انتقدت اللجنة الإسلامية في مجلس الشورى التصرفات الفردية التي تسيء إلى الهيئة، "وتدل على الحاجة إلى تأهيل الميدانيين عبر دورات متخصصة، تركز على كيفية التعامل مع الجمهور والتواصل معهم، كما رأى أحد الأعضاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يجري في الأمور المتفق عليها شرعاً، وليس في القضايا محل الخلاف، وأن تكون هناك لائحة بالمنكرات المتفق عليها من قِبل الفقهاء وأهل الاختصاص؛ لتكون دليلاً لعمل منسوبي الهيئة، حسبما أوردت صحيفة الشرق الأوسط السعودية حينها، فيما لفتت إحدى العضوات إلى أهمية توظيف المرأة بالهيئة خصوصاً مع زيادة أعداد المحال النسائية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذاكرة التسلط
وأثارت دعوات بمجلس الشورى للتصويت منتصف يناير (كانون الثاني) 2019 على دعم جهاز الهيئة، سجالاً واسعاً بين الدعاة لعودة أدوار الهيئة ضمن الإطار التنظيمي الحالي، فيما رفض آخرون العودة للوراء، على حد تعبيرهم.
وأوضح الكاتب وعضو الشورى السابق سعد البازعي، أن "استمرار الهيئة بوضعها الحالي أفضل، والتصويت بدعمها لن يؤدي إلا إلى إضاعة المال والجهد في دعم جهاز اتضح للجميع أن من الأفضل تقييد أفراده، نتيجة لما صدر عنهم من أخطاء لم ينفع معها التعديل والتصحيح". مبيناً أن "المسيرة التنموية المباركة لا تحتمل وجود العنف والتشدد مرة أخرى".
وأكد عضو الشورى محمد الشهري، أن "الهيئة بصلاحياتها وأسلوبها السابق لم يعد لها مكان"، مضيفاً أن "الأجهزة الأمنية تضطلع بمسؤولياتها، وإذا كان لا بد من بقاء هذا الجهاز، فليكن بشكل رمزي كما هو الآن. ينتهي دوره بإيصال البلاغ للجهة المعنية".
وارتبطت الهيئة بالسجال العالمي الذي يحدث بين فينة وأخرى من التيارات المضادة للسعودية، حيث تشكّل تحركات أعضاء الهيئة انعكاسات في الصحف والقنوات العالمية.
ولا تزال صورة الهيئة السابقة حاضرة لدى السعوديين وعدد من التقارير الأجنبية، مثل القبض على دمية أمام متجر لتمثيلها هيئة فتاة غير محتشمة، إذ كانت اجتهادات أعضاء الهيئة حاضرة للإدانة واتهام الشاب الذي كان يلبس زي الدمية بالتشبه بالنساء حينها.
وعلى غرارها كانت قضية فتاة مول النخيل، التي وثقتها الكاميرات، فتحولت إلى قضية عالمية بين ليلة وضحاها، كما تحولت إلى سجال قيمي، جعل رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان مفلح القحطاني، يؤكد أن "مطاردات أعضاء الهيئة التي تتكرر من حين لآخر، وتُبنى على اجتهادات من الفرق الميدانية، تسيء إلى سمعة الجهاز، بالإضافة إلى سمعة السعودية، خاصة إذا كان فيها انتهاك وتعدّ على حقوق الأفراد، في ظل انتشار وسائل التواصل الحديثة".
وأيضاً تعرضت الهيئة لانتقادات حادة على الإنترنت، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي في قضايا أخرى، نفذت فيها سياراتها عمليات مطاردة انتهت بحوادث دامية، دفعت رئيس الهيئة لوقف مثل هذه المطاردات في 2012.
لكن مطاردة في العام التالي انتهت بمقتل أحد أفراد الشرطة السعودية سلطت الأضواء على الهيئة بعد نشر فيديو التقطه أحد المارة على مواقع التواصل الاجتماعي.
وأثارت الهيئة الجدل مرة أخرى على الإنترنت بعد ذلك، إثر نشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يُظهر أعضاءها يضربون فتاة أمام مركز تجاري بالرياض. وذكرت وسائل إعلام محلية أن الدورية حاولت إجبار المرأة على تغطية وجهها.
"هيئة رقص بعد هيئة أمر بالمعروف"
ومع أن الهيئة لا تزال قائمة كجهاز حكومي، فإن تحجيم دورها، ظل محل انتقاد بعض جيوب المحافظين، ممن ظلوا يتباكون على دورها السابق كلما تحدثت الأوساط عن سلوك اجتماعي لا يرتضونه، مثل حفلات هيئة الترفيه السعودية، التي امتلأت مسارحها بالعائلات والشباب السعوديين من دون حوادث تذكر، خلافاً لما كان مؤيدو الهيئة في الماضي يتوقعون.
واستغلت أطراف متشددة وسياسية هذا السجال الدائر بسبب عودة السعودية إلى ما كانت عليه في السبعينيات "دولة طبيعية"، مما دفع تنظيمات إخوانية ووسائل إعلام موالية لها مثل "الجزيرة" القطرية، إلى محاولة إظهار التناقض بين ماضي السعودية حين اشتداد قبضة هيئة الأمر بالمعروف، وبين حاضرها يوم أن نافست مدن الرياض والشرقية والعلا نظيراتها الخليجية والعربية في أسلوب الحياة ووسائل الترفيه المختلفة.
التوجه الجديد للرياض لا يروق لـ"الجزيرة" وأنصارها، وهي التي قالت في أحد تقاريرها، إن السعودية ضائعة بين "هيئة أمر بالمعروف وهيئة ترفيه ورقص". بيد أن الفقيه السعودي أحمد الغامدي اعتبر "هذا النوع من المنطق أعوج، دافعه إما خشية المنافسة، أو شيطنة ما تراه قطر من إقبال السعوديين على الحياة والتصالح مع أنفسهم ومجتمعهم، وقبل ذلك طبيعة الإنسان، وإلا فإن من يذهب إلى قطر يجدها غارقة في أسوأ مما تنتقده في السعودية".
"الرهاب الديني"
ويرى الغامدي، الذي كان قيادياً سابقاً في الهيئة، أن حصار الناس بما سماه "الرهاب الديني" لا ينتج مجتمعاً صالحاً ولا سوياً، "بل هو الذي أنتج العديد من مشكلاتنا الاجتماعية مثل الطلاق والإلحاد وبعض مظاهر العصيان، ولذلك فإن التوازن بين المواعظ والفرح، جانبٌ مشرقٌ في الإسلام، يبقي على سماحته وإظهار قدرته على استيعاب كل ما يعتبره الغلاة خارجاً عن جوهر الشريعة".
وفي منظور رجل الدين السعودي الذي واجه سيلاً من النقد في العقد الماضي جراء آرائه الخارجة عن النص آنذاك، فإن الصقور من أنصار الهيئة في العقود الماضية، لا يزالون يحاولون الدفاع عن صورتها ووجودها الميداني، إلا أن "ذلك الزمن قد ولى".
وروى لـ"اندبندنت عربية" كيف واجه صعوبات جمّة، لدى دفاعه عن بعض المقبوض عليهم وحماية سمعتهم من التشويه والانتقام. مما جعل العاملين معه يكيدون له ويشيعون أنه كان "يبيع القضايا". بينما كانت غايته "حماية أعراض الناس من التشهير، أخذاً بسماحة الإسلام، وحضه على الستر، ونهيه عن التلصص على العورات، والفرح بإيقاعهم في شرك الفضائح".
عضو متحمس يجد أخاه في المخفر
وقال إن من بين أغرب ما وقع له مع الحالات التي وردت إلى مكتبه في مكة، حيث يقود منطقة كاملة تتبعها العديد من المراكز، أن "أحد أعضاء الهيئة كان شديد الحماسة لإيقاع العقوبات بالمخطئين، فعندما يقبض على شاب مع امرأة في خلوة غير شرعية فإنه يقنع المركز برفعه إلى القضاء، بينما كنت أعارضه وأحاول الستر قدر الإمكان. ذات مرة احتد النقاش بعد أن أصر العضو على إيقاف امرأة متزوجة قبض عليها في سيارة مع أحدهم، فلما رفضتُ قال إنها خائنة، ولم تحترم بيت الزوجية. بينما أفهمته أن ذلك صحيح، لكن القبض كان في سيارة وليس في غرفة نوم، ولسنا مطالبين بالتحقيق في ذلك. وأن الأدعى لإصلاح أمر الشخصين تأنيبهما والستر عليهما بعد أخذ التعهد بعدم تكرار ما بدر عنهما. مع ذلك لم يقتنع. فأغلقت القضية بناء على الصلاحيات المخولة إلي".
يتابع، "المفاجأة حدثت عندما وقع شقيق للعضو المتحمس في قبضة إحدى فرق الهيئة بعد أشهر، مختلياً بإحدى النساء في مكة، ولم يكن لأخيه العضو ملاذٌ أقرب من رئيس الفرع في مكة" وهو الغامدي، الذي أضاف، "اتصل بي فشرح لي ما حدث، ثم أخبرته بأنني سأتجه للستر عليه حتى وإن لم تشفع له، ولكن هل تذكر قضية مماثلة سبقت، كنت دافعتُ عن ملاحقتها قضائياً؟ فخجل، وقال، كنت أبعد نظراً. فقلت له، كل الناس ينظرون لأبنائهم وبناتهم كما تنظر أنت إلى أخيك، فكن رحيماً".
لكن مع ذلك لا يرى الغامدي أنه من المفيد إلغاء الهيئة بالكلية، وإنما دعا إلى تطويرها، وتفريغها لـ"الأمر بالمعروف" فقط، عبر أساليب عصرية غير مباشرة، بتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات السينما والتأثير كافة، واستقطاب متخصصين في مجالات إعلامية يملكون خبرة وباعاً في الصناعة، فيما تكتفي في جانب "النهي عن المنكر" بإجراء الدراسات وإقامة المؤتمرات والرفع بتوصياتها للجهات التنفيذية. كما أنه من غير المجدي دمجها في وزارة الشؤون الإسلامية، أو أي جهة دينية في البلاد، إذ إن الخلل عميقٌ في معظم هذه المؤسسات، وتحتاج إلى إعادة هيكلة ورؤية غير تقليدية.