صحيحٌ أنّ عدد الروايات العالمية التي جعلت من الأوبئة خلفية لأحداثها إن لم تكن موضوعاً أساسياً لها لم يكن كبيراً، ومع ذلك فإنّ هذا الصنف الأدبي، إن جاز لنا أن نعدّه صنفاً، غالباً ما استُخدم لدوافع فلسفية تأملية بأكثر مما اُستخدم لدوافع تاريخية حقيقية.
ولنذكر على سبيل المثال هنا أن الرواية التي ربما تكون الأشهر في هذا المجال، "الطاعون" للكاتب الفرنسي ألبير كامو، التي دائماً ما تُذكر في كلّ مرة يريد فيها أحدٌ أن يتحدّث عن هذا اللون من الأدب، لا يمكن بأي حال فصلها عن الهموم الفلسفية التي شغلت بال كاتبها.
وبالتالي، أجمع الدارسون والنقاد على أن الطاعون فيها ليس سوى كناية، ولعل خير دليل يوردونه على ذلك، هو أن الوباء نفسه لا يشغل حيزاً كبيراً في الرواية، ناهيك بأن وصف كامو لاستشرائه وغوصه في تفاصيله لا يرقى، مثلاً، ولكي نبقى ضمن سياق الأدب الفرنسي في القرن العشرين، إلى وصف مارسيل بانيول داء الطاعون نفسه في روايته "المصابون بالطاعون"، لكن خاصة إلى مستوى ما فعله جان جيونو في روايته الكبرى "الخيّال فوق السطح" التي تبقى الرواية المرجع في هذا المجال، بالصفحات المدهشة التي يصف فيها جيونو القرى والمناطق والموت والعواطف والعلاقات البشرية الناتجة عن ذلك كله.
ومع هذا يقال دائماً إن وباء الكوليرا الذي يشكّل العمود الفقري لموضوع الرواية لا يقل هنا في رمزيته عن الطاعون في رواية كامو. فهنا أيضاً لم يتحدّث جيونو عن الكوليرا إلا لكي يتحدث عن الإنسان أمام الخوف والموت، علماً أن المؤرخين يقولون عادة إن الحقبة التاريخية التي يتحدّث عنها جيونو في "الخيّال فوق السطح" لم تشهد في منطقة البروفانس الأعلى في الجنوب الفرنسي أي نوع من الوباء، بمعنى أن الكاتب تعمّد إزاحة التاريخ بعض الشيء، لكي يربط حالتين ببعضهما بعضاً، ثانيتهما، وربما أهمهما بالنسبة إليه، الصراع السياسي في منطقة البييمونتي الإيطالية بين الإيطاليين ومحتلي بلادهم النمسويين. لكن هذا الانزياح التاريخي لا يبدو أنه أثار لوم النقاد كثيراً.
المعاني هي الأساس
كان المهم بالنسبة إليهم استخلاص المعاني من حدث خطير. وذلك بالاستناد إلى مسعى جان جيونو الدائم القائم على وضع الإنسان الفرد في مواجهة حدث جماعي ورصد طريقة مجابهته له.
وذلك هو الموضوع الأساس في هذه الرواية أيضاً، الموضوع الذي لوى من أجله الكاتب عنق الواقع التاريخي على هواه. والفرد الذي نشير إليه هنا هو ضابط الخيّالة الإيطاليّ الشاب آنجلو الذي يحدث له مرة أن يقتل ضابطاً نمساوياً خلال مبارزة، ما يضطره للهرب إلى البروفانس الفرنسي الأعلى، وغايته تحديداً اللجوء إلى بلدة مانوسك، وهي في الواقع مسقط رأس جيونو نفسه الذي اعتاد أن يجعل معظم رواياته الأخرى تدور فيها، فهو له في البلدة أخ بالرضاعة يمكنه الاعتماد عليه في منفاه. وهكذا يبدأ آنجلو رحلته التي سيُصدم ما إن تقوده إلى تلك المنطقة الفرنسية، من جرّاء خلوّ القرى المتتالية من السكان فإن وُجدوا فموتى أو محتضرون.
لقد مرّت الكوليرا من هنا، وتمكّنت بسرعتها الرهيبة من القضاء على الناس في غياب أي عناية صحية أو أجسام طبية أو حتى أغذية تقوي مناعة السكان، ولسوف نعرف هذا بتفاصيله حين يلتقي آنجلو في ثالث قرية يدخلها طبيباً منهكاً لا يزال، ورغم كل شيء، يواصل محاولاته اليائسة لإنقاذ من يمكنه إنقاذهم.
ويندفع آنجلو إلى معاونة الطبيب في عمله. لكنها اندفاعة لا تسفر عن نتيجة، فالمرض أقوى من أي جهد بشري. بل إن الطبيب نفسه سرعان ما يموت بين يدي بطلنا، ويصف الكاتب موته ومعاناته في صفحات مرعبة.
الغريب هو المذنب دائماً
لكن، آنجلو يتابع طريقه وقد ازداد عزمه على القيام بواجبه بينما الكاتب يكرّس صفحات بعد صفحات لوصف القرى والمناطق والخراب والموت. ولاحقاً إذ يصل آنجلو إلى البلدة التي يقصدها، ويشعر لوهلة أن خلاصه تحقق، يذهله تكالب من تبقّى من السكان من حوله، محاولين سحله، وهم يتهمونه بأنه قد سمّم الخزانات التي تغذي البلدة بمياه الشرب. فحتى في تلك الأيام، من الواضح أن الغريب هو المتهم والمذنب، الذي سيقدّم ككبش محرقة.
بيد أن آنجلو يتمكّن من الهرب من مهاجميه لاجئاً إلى سطوح البيوت حيث سيعيش فترة من دون أن ينتبه إليه أحد، سوى قطة بائسة سترافقه في إقامته هناك في الأعلى مؤنسة وحدته غاضّة طرفها عن غزوات يقوم بها بين الحين والآخر إلى بعض البيوت المهجورة بحثاً عن طعام أو بقايا طعام.
ويلتقي آنجلو في واحدة من غزواته سيدة حسناء هي بولين دي ثيوس التي تدهشه بشجاعتها، وبكونها لا تخشى لا المرض ولا الموت ولا الأشرار الذين باتوا منتشرين في كل مكان. بل تدهشه أكثر حين تدعوه إلى شرب الشاي معها، ويلاحظ حلاوة الشاي التي لا تصدّق! وبعد حين إذ يجرؤ آنجلو على مبارحة السطوح يلتقي راهبة تقوم ليلاً نهاراً بغسل موتى الوباء، تمهيداً لدفنهم بطريقة مسيحية لائقة، لا يتورّع عن مساعدتها في عملها من دون رهبة أو شكوى.
لكن، السكان سرعان ما يهجرون البلدة مرعوبين أمام استشراء الوباء في مهاجمتهم، لاجئين إلى مخيّم أقيم في أعلى التلال حيث تبدو حرارة الجو هناك أخف وطأة مما كانت عليه خانقة قاتلة في القرى التي عبرها سابقاً.
لكن، المفاجأة الأكبر بالنسبة إلى آنجلو هنا ستكون في عثوره على أخيه بالرضاعة جوزيبي مسؤولاً في المخيّم، وطبعاً يتعانق الاثنان، ويبدأ آنجلو بتسوية حياته في المكان، لكنه سرعان ما يحس بالضيق، لا سيما أمام ممارسات بعض المسؤولين بما في ذلك حجرهم ليس على الموبوئين فقط، بل على كل من يمتّ إليهم بصلة قرابة.
عودة إلى الوطن
وهكذا يتابع صاحبنا ارتحاله غير مبالٍ بالحرارة المتفاقمة، ولا بانتشار المرض من حوله أكثر وأكثر. بل إنه لن يبدي ولا لحظة دهشته، لكون المرض قد وفّره ولم يطله، كذلك لن يبدي أي دهشة حين يلتقي عند حاجز في طريق عودته إلى وطنه إيطاليا، الحسناء بولين فيتابعان المسير معاً عابرين من جديد قرى خربة وجثثاً منتشرة وسط حرارة لا تطاق، من دون أن يغيب عن باليهما كون رجال الأمن منتشرين يطاردوهما كما يطاردون أي شخص لم يحصده الوباء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأدهى من هذا أنهما عندما يصلان إلى قرية يبدو أن الوباء لم يصلها، يُقبض عليهما ليودعا في الحجر الصحي، لكنهما يهربان، وبعد ذلك حين يكتشف آنجلو أن بولين التقطت الوباء يساعدها بقدر ما يستطيع قبل أن يعيدها إلى قريتها، ويتابع هو طريقه إلى إيطاليا مبتسماً، فلقد حوّله الوباء الذي اجتازه وتجاوزه إلى إنسان جديد يعرف قيمة الحياة وسعادة مساعدة الآخرين.
عند هذا الحد تبدو رواية جان جيونو وعظية إلى حد ما، وتفقد بنهايتها هذه قسطاً كبيراً من قوتها، لكنّ كاتباً مثل جيونو ما كان ممكناً له أن يُنهي روايته إلا بهذا الشكل، طالما أنّ المهم يبقى بالنسبة إليه تلك الصفحات العديدة التي صوّر بها مناخ الكوليرا وتعاسة البشر، وكيف انعكسا على بطله عاملين على إحداث ذلك التغيير الجوهري فيه.
ونعرف أن مثل تلك التغيّرات كانت دائماً أساسية في أدب جان جيونو (1895 – 1870)، الذي عُرف بنزعته السلمية التي جعلته يُتّهم حتى بالتواطؤ مع النازيين الذين احتلوا فرنسا عند بدايات الحرب العالمية الثانية. غير أنّ التهاون معه كان أسهل من التهاون مع "متعاونين" آخرين طالما أن "تواطؤه" مع الأعداء لم يكن نشطاً، بل ينبع فقط من نزعة سلمية كما قال المدافعون عنه!