Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الموت وفارس الملك" لوول سوينكا... جوهرة مسرح ما بعد الاستعمار

فتحت سجالات حادة حول صدام الحضارات

مشهد من مسرحية "الموت وفارس الملك" للأديب النيجيري وول سوينكا (غيتي)

عن خطأ أو عن صواب يمكن اعتبار عام 1986، تاريخاً حضارياً للقارة الأفريقية، وذلك أنه العام الذي شهد أول أديب أفريقي في التاريخ يفوز بجائزة نوبل الأدبية. لكنه لن يكون الأخير، منذ ذلك الحين، إذ نعرف أن المصري نجيب محفوظ سوف يفوز بالجائزة بعده بعامين، كما أن سنوات التسعين ستشهد فوز أفريقية بيضاء هي نادين غورديمير، وأميركية أفريقية من الولايات المتحدة، هي توني موريسون بنوبل نفسها قبل ضروب فوز أخرى متتالية وإن لم تكن كثيرة. إذاً، على رغم ذلك الفوز الأفريقي، خلال مسافة زمنية صغيرة جداً، يبقى أن وول سوينكا النيجيري كان الأول بينهم في عام 1986، ما لفت أنظار العالم إلى غنى أدبي لم يكن متوقعاً، في قارة حُرمت من الجوائز ومن الانتشار الأدبي طويلاً، لا سيما في جنوبها الأسود، الذي اشتغلت ضد نهضته الفكرية عوامل عديدة لا مجال هنا إلى تفصيلها.

بين عقليتين

فالحقيقة أن ما يهمنا هنا هو واحدة من أجمل وأقوى مسرحيات سوينكا، وهي واحدة من مسرحياته العديدة التي لا يمر موسم مسرحي في وطنه نيجيريا أو في لندن أو في أي من البلدان الأنغلوفونية، إلا وتقدّم بشكل أو بآخر. ونعني هنا مسرحية "الموت وفارس الملك" التي ذُكرت مطولاً يوم أُعلن عن فوزه بنوبل.

من ناحية التصنيف تنتمي مسرحية "الموت وفارس الملك" إلى ما يسمّى بأدب ما بعد الكولونيالية انطلاقا من كون "أحداثها" تدور في نيجيريا أيام الاستعمار الإنجليزي ويتمحور موضوعها حول الصدام بين الذهنية الأصيلة لدى شعب اليوروبا، الشعب الذي تنتمي إليه غالبية سكان نيجيريا من ناحية، والذهنية الكولونيالية الغربية من ناحية أخرى. أما من ناحية الشكل فينتمي العمل إلى فن الفرجة الذي يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن الأسلوب المسرحي الغربي ليدنو من فن الحكواتي. ومن البديهي أن هذا الشكل الذي يبعد مسرح ما بعد الكولونيالية عن تقاليد المسرح الغربي كان محور سجالات عريضة في حينه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المهم أن المسرحية تستند إلى حادثة حقيقية تتحدث عن ملك من ملوك يوروبا مات قبل سنوات من الحرب العالمية الثانية ما استدعى، كاستجابة للتقاليد، أن يُحرق كلبه وحصانه ليرافقاه الى العالم الآخر، كما يستدعي انتحار فارسه الخاص لمرافقته كذلك تعبيراً عن وفائه الأبدي. بيد أن الفارس يطلب، كأمنية أخيرة، أن يُزوّج من صبية يبدو أنه كان يتطلع اليها منذ زمن. وليس أمام الصبية أي اختيار. ولقد استعار سوينكا الحادثة الأصلية هذه مموضعاً إياها زمنياً خلال الحرب العالمية الثانية يوم كان الغرب يقترف من المجازر ما يعصى على الوصف، بهدف سيتحدث عنه النقاد الإنجليز بشكل مسهب. انطلاقا من أن السلطات الإنجليزية الحاكمة ممثلة هنا بالحاكم البريطاني سايمون بيلكنز وزوجته جين، لا تتورع، حين تعلم بما يحدث عن خوض انتفاضة غضب أمام "وحشية هذه التقاليد". من هنا طبعاً يخدم تبديل زمن الحدث في المقارنة بين غضب السلطات البريطانية لموت رجل واحد وبين اقترافها هي لمجازر تطاول مئات الألوف.

طبعا سيكون من التعسف الاكتفاء بالإشارة إلى هذا الجانب في عمل غنيّ كتبه سوينكا عند بداية سنوات السبعين حين كان يعيش في المنفى وقُدّم للمرة الأولى على خشبة لندنية ثم نيويوركية في عام 1975 ليثير من السجالات ما لم يثره أي عمل آخر للكاتب نفسه، إذ اتهم من قبل النقاد الإنجليز والأميركيين خاصة بنزعة قومية ورجعية مستعادة لديه؛ إذ فُهمت المسرحية بكونها تدافع عن التقاليد لمجرد مناهضتها للموقف الاستعماري البريطاني. وللمناسبة جرى الحديث عن إعادة إحياء – تحت قناع تقدمي – لفكرة صدام الحضارات، وهو أمر يتجلى "في دفاع المسرحية عن الفساد والعنف ومبدأ القرابين البشرية" بحسب الكاتب جورج مور الذي لم يوافق، على أن ذلك الدفاع لم يكن سوى نوع من الرمز والكناية من قبل مبدع لم يخف في الماضي شكواه الدائمة، كما قال المدافعون عنه، من "الحمق البشري" معتبرين المسرحية جزءاً من تلك الشكوى.

 جائزة نوبل تحسم النقاش

مهما يكن من الأمر، فإن ما يمكن قوله في هذا المجال، أن فوز وول سوينكا بجائزة نوبل بعد ذلك بسنوات قليلة، قد أتى ليخفف من غلواء الانتقادات الموجهة إلى الكاتب على أساس أن الفوز مستحقّ وكان متوقعاً قبل ذلك بزمن طويل، إذ منذ أواسط سنوات السبعينيات كان اسمه يرد دائماً في لائحة المرشحين المحتملين، حتى وإن كان الذين يوردون اسمه ويرددونه ندر لهم أن قرأوا عملاً من أعماله الروائية أو المسرحية. هذا إضافة الى كونه كاتباً وصاحب لغة وموضوعات متميزة، كان سوينكا ولا يزال صاحب صوت في الشؤون السياسية، واعتاد أن يرفع ذلك الصوت دفاعاً عن أفريقيا وعن الحرية في كل مرة أتيح له ذلك، ومن ثم بعد الاستقلال، مواصلته النضال ضد الديكتاتوريات المتعاقبة في بلده نيجيريا، ودفاعاً عن حقوق الأقليات والإثنيات فيها، حتى حقهم في الانفصال، كما كانت الحال حين وقف ضد التيار ذات يوم دفاعاً عن حق إقليم بيافرا في أن يحكم ذاته بذاته.

وول سوينكا من مواليد عام 1934 في الإقليم الغربي لنيجيريا، وينتمي عرقياً ولغوياً إلى قبائل "اليوروبا". وبدأت مواهبة الأدبية تظهر منذ كان طالباً في المدرسة السنوية، حيث نشر قصصاً قصيرة أذيعت له. وتوجه في عام 1954 إلى بريطانيا حيث أكمل دراسة الأدب الإنجليزي في جامعة ليدز وتخرج في عام 1958. وخلال وجوده في بريطانيا، عمل قارئ نصوص في المسرح الملكي في لندن وبدأ يهتم بالكتابة للمسرح، مستوحياً من ناحية تقاليد المسرح البريطاني، ومن ناحية ثانية تقاليد العروض اليوروبية، ذات الشكل (المسرحي _ الديني) التي كان يعرفها جيداً منذ طفولته. كان من أول إنتاجه مسرحيتان هما "سكان المستنقع" و"الأسد والجوهرة"، قدمتا للمرة الأولى في مدينة إبادان النيجيرية حال عودته إلى وطنه.

الماضي لا يهم كثيراً

ومنذ تلك العودة وذلك التقديم المزدوج للمسرحيتين، صار سوينكا نجماً أدبياً ومسرحياً حقيقياً في نيجيريا وفي أفريقيا بشكل عام، وراحت أعماله تنتشر وتترجم إلى الكثير من اللغات. وبات يُعرف كشاعر وروائي وكاتب مسرحي في الوقت نفسه. غير أن عمله، على تنوعه، كان على الدوام عملاً أفريقياً خالصاً،  شكلاً وموضوعاً، وأيديولوجيا.

غير أن ما يلفت في أدب سوينكا هو قلة احتفاله بالماضي، أو بأي نزعة حنين سلفية. بالنسبة إليه كانت أفريقيا الحاضر، ولا تزال، هي مصدر الأدب وبحاجة إليه أكثر من أي شيء آخر. ولأن سوينكا إنجليزي اللغة والتعبير، كان أدبه - وهو ما لاحظته لجنة نوبل حين منحته جائزتها - محاولة دائمة ودائبة للتوفيق بين التراث الأفريقي بما فيه من أساطير وأمثال غنية رائعة، وبين "حقائق العالم الغربي الحديث" الذي لا يمكن للقارة الأفريقية أن تتجاهله. وفي هذا الإطار كان يحلو له أن يقول دائماً إن "النمر، لا يمضي وقته وهو يفخر بكونه نمراً، بل في الانقضاض على فريسته وأكلها". وهو كان يقول هذا في معرض انتقاده للذين يمضون الوقت في إعلان هويتهم الزنجية والدفاع عنها.

من مسرحياته الأخرى الشهيرة إلى جانب "الموت وفارس الملك"، "الطريق" و"حصاد كونجي" بين عشرات الأعمال. ونذكر هنا أن سمعته العالمية كفائز بجائزة نوبل لم تمنع النظام العسكري النيجيري من إيداعه السجن في عام 1993. كما أن ذلك السجن لم يمنعه هو من أن يواصل معركته ضد السلطة الظالمة، عبر مقالات راح يكتبها وتنشر على نطاق واسع. وهو حول هذا يقول، "هكذا تكون جائزة نوبل قد نفعت في شيء: وفرت لي من المنابر العالمية ما يمكنني من التنديد بالظلم والقمع".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة