كنتُ أحد المحظوظين من بين ملايين البريطانيين المعرّضين للخطر بعد أن تقطّعت السبل بهم خلال وجودهم خارج البلد. وفي حالتي، كنتُ في منطقة تقع بين بريطانيا وأستراليا. عدنا أنا وزوجتي، مع بعض الصعوبات، والآن نحن في حال من العزل الذاتي، فنحن عرضة لذلك لسببين، كوننا كنّا مسافرين ولأننا "هشان" في سن فوق السبعين.
سمحت لنا العودة من الخارج أن نرى بوضوح الرد البريطاني على فيروس كورونا: بما فيه من جيد وسيئ. يتمثل الجانب الجيد في أنه على الرغم من وجود حكومة متعجرفة، وتحديداً رئيس وزراء متبجح، فإنّها أدركت أنّ عليها التعلّم كثيراً لتحجيم الجائحة من بلدان أكثر تنظيماً منها في شرق آسيا. كذلك، فإنّ الحكومة تستحقّ الإطراء على تقديم مجموعة من السياسات الاقتصادية الراديكالية وغير التقليدية والمعقولة، على الرغم من أن الحاجة لا تزال ملحة لمساعدة العاملين المستقلين. وثمة قصص كثيرة مشجّعة لأفراد وشركات يمضون أبعد ممّا هو متوقع في مساعدة الآخرين.
غير أنّ الأقل إثارة للإعجاب هو التباس رسائل الحكومة. فأنا وزوجتي بين آلاف المسافرين الذين وصلوا إلى النقطة الحدودية في مطار هيثرو فجراً يوم السبت الماضي. وهناك، زُوِّدنا بمنشور حول كيفية التصرف إذا ظهرت علينا أعراض الفيروس. لكن افتقر إلى ما يرشد الغالبية الساحقة ممَّن لم تظهر عليهم أعراض المرض، والذين قد لا يعرفون عن سياسة العزل الذاتي بالنسبة إلى المسافرين أو لم يسمعوا بالنصيحة العامة للبقاء في البيت، (آنذاك، كان ذلك لا يزال اختيارياً)، ولا بتقييد حرية التسوق. اخرجي من سباتك يا بريتي باتيل [وزيرة الداخلية البريطانية].
والأسوأ من ذلك هو نهب المتاجر الكبرى من دون مراعاة مصلحة الآخرين. لقد تمكّن سكان منطقة تويكنهام المتعلمون المنتمون للطبقة المتوسطة، الذين عادة يُعتبرون أسمى من تصرفات كهذه، من تفريغ متجر وَيتروز من سلعه الأساسية مثل الفواكه والخضار وأوراق الحمام. حالة الذعر على أوراق المراحيض عجيبة، خصوصاً أنّ محارم المطبخ الورقية متوافرة وهي ذات نسيج مماثل. أتساءل كم من مُجمّعي أوراق الحمام توقفوا وفكروا بماذا يفعل شطر غالب من البشرية كلها لتدبير النظافة الشخصية من دون وجود هذا النوع المحدد من الكماليات الغربية.
ما علمته حتى الآن من "بديل تشرتشل" الذي يذيع من مقر الحكومة في 10 داونينغ ستريت هو ما يردّده يومياً أننا في حالة حرب. لكنها تنتمي إلى نوع غريب من الحروب. فالحروب قوامها التضحية بالحياة في سبيل بعض الأهداف السامية مثل الحرية، أو من أجل أهداف أدنى كعباً مثل الاستيلاء، والاقتصاد يعمل بأقصى طاقته وبكامل عمالته، لينتج مواد نحتاج إليها. هذه الحرب هي خلاف ذلك: التضحية بالحريات والاقتصاد لإنقاذ حياة الناس.
مع ذلك، فإننا نُحَثُّ على رص الصفوف حول الجهد الحربي. أنا لا أعترض، لكنني بدأتُ أقلق ممّا يُطلب منا القيام به، ولماذا. مساهمتي في الجهد الحربي تقتصر على الرفقة الممتعة لزوجتي، والقراءة والكتابة والاستماع إلى الموسيقى والخروج للمشي وركوب الدراجة في أماكن غير آهلة بالسكان، والبقاء على تواصل مع عائلتي وأصدقائي عبر الهاتف والرسائل الإلكترونية وسكايب.
ولكنني أفضّل أن أمدَّ يد العون. وبالتأكيد، أنا غير مفيد بين طياري "سبيتفاير" الأبطال الذين يعملون في مستشفيات "الهيئة الصحية الوطنية". لكن مستوى خبرتي ولياقتي الجسدية كافيتان لدعم الجُند إذا كانوا بحاجة إلى سائق فان، أو معبئ رفوف، أو حفّار قبور(على الرغم من أنه في زمن الركود الاقتصادي يجب أن تذهب الأشغال للعاطلين عن العمل لا للمتقاعدين). غير أنني بُلّغت أن لا حاجة لي، لأني "هشٌّ أمام المرض" وأنّ أفضل مساهمة يمكنني تقديمها هو الابتعاد عن طريق الآخرين لئلّا يصيبني الفيروس، فأُثقل على مستشفى ما.
لعلّني فعلاً "مستهدف" لكني مستغرب لماذا أصبح عيد الميلاد السبعين مصدراً للهشاشة بحد ذاته. سيختار الأميركيون بعد مدة قصيرة، واحداً من رجلَيْن في سني تماماً، ليحتل أقوى منصب على وجه المعمورة. وأستطيع أن أفكر في عددٍ كبيرٍ من الصفات التي تنطبق على دونالد ترمب (أو حتى على جو بايدن الشخص الألطف والأقلّ حيوية)، لكن صفة "الهشاشة" ليست واحدة منها. ففي وقت ثمة ترابط ما بين السن والقابلية لأسوأ تأثيرات هذا الفيروس، فإنّ افتراضاً مُعمِّماً يعتبر كبار السن هشّين أمام المرض والشباب منيعين، خطير.
يمكن القول إنّ الأفراد المعرضين فعلاً لخطر الإصابة ليسوا المتقاعدين المرفهين مثلي، بل العائلات الشابة المجبرة على البقاء في بيوت مزدحمة بأطفال في سن الحبو أو مراهقين لا يهدأون، أو أولئك المقيمون في شقق يصلون إليها بواسطة مصاعد عامة وخالية من الحدائق، أو المشردون، أو المرضى نفسياً وهم اليوم أمام سبب آخر للوقوع في قلق مزمن، أو أولئك الأشخاص القلقون حول كيف سيدبّرون أحوالهم بمدخول أقل مع إيجار وفواتير ثابتة القيمة.
مع ذلك، فهؤلاء هم الذين يشكّلون الجنود في جبهات الحرب الأمامية لإنقاذي وإنقاذ مَن هم في سنّي، من احتمال تقلّص سنوات حياتي الباقية. مقياس النجاح هو عدد "الحيوات المنقَذَة" أو تجنّب وقوع وفيات مفرطة. لكن وراء الأرقام، هناك أحكام تقييمية تعتبر حالات الحياة المنقَذَة وحالات الموت ذات قيمة واحدة. لكنها مختلفة. فكشخص في سن السابعة والسبعين ويتمتع بصحة جيدة، متوسط العمر المتبقي ربما يساوي عقداً واحداً. وخلال عشر سنوات، إذا بقيتُ على قيد الحياة، سيبقى متوسط العمر أمامي ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات. مع ذلك، فإنّ أحفادي المراهقين يستطيعون أن يتوقّعوا العيش 60 سنة أخرى أو أكثر. بالطبع على "هيئة الصحة الوطنية" أن تستخدم كل الموارد الممكنة لإنقاذ حياة أي شخص، لكني مقتنع بأنّ الشباب يجب أن تكون لهم أسبقية من دون شك. بالتأكيد، علينا أن نقيس الحياة بأكملها مساوية للحيوات المفقودة والمنقَذَة للحكم على كيفية مسار الحرب.
للمجتمع المحترم والمتحضّر اهتمام عطوف برفاهية كبار السن. أنا أقيّمُ مشاركتي في مشروع ابتكاري لاستخدام تكنولوجيا جديدة للمساعدة في رعاية أولئك المصابين بالخرف. لكن ثمة خطراً من الانسياق وراء مشاعر انفعالية. علينا أن نكون حازمين. أنا أفهم ذلك، ففي إيطاليا، كان على الطاقم الطبي المعرّض للمضايقة بشكل كبير أن يستخدم الأسرّة القليلة وأجهزة الإنعاش للشباب عوض كبار السن. وكان محقّاً في ذلك. أما بالنسبة إلى "هيئة الصحة الوطنية" الخاصة بنا، فقد تصل إلى الوضع ذاته بعد مدّة ليست طويلة. لكن تلك المسؤولية الرهيبة يجب ألاّ تقع على عاتق الكادر الطبي فقط. تعود إلينا نحن، من طريق نوابنا، مسؤولية بتّ المبدأ وراء القرار.
وإذ تُظهر أرقام جامعة "إمبريال كوليج لندن" أن معدل الوفيات بسبب فيروس كورونا أقل من 1 في المئة بالنسبة إلى من أعمارهم أقل من الستين، فإنّ هذه الحرب الغريبة والمكلفة جداً، هي بشكل عام، وليست بأي شكل حصري، حول حفظ الحياة بين كبار السن. وأنا آمل في أنهم (أو بالأحرى نحن) ممتنون على ما يُجدر بهم. نحن نعيش حياتنا الآن في مجتمع يعكس مصالح الفئة العمرية التي انتمي إليها وأحكامها المسبقة – من أوليات الإنفاق العام إلى الملكية العقارية إلى النتائج السياسية. حين تنتهي الحرب، ونفوز فيها، سنحتاج إلى أن تعود الأمور إلى نصابها.
( السير فنس كابل هو زعيم سابق لحزب الديمقراطيين الأحرار، ووزير سابق ونائب)
© The Independent