يبدو أنّ التاريخ يعيد نفسه، إذ لجأت الحكومات والبنوك المركزية حول العالم إلى استخدام الأدوات المالية والنقدية نفسها التي سيطرت بها على الأزمة المالية العالمية قبل 12 عاماً.
وعلى الرغم من نجاعة هذه الإجراءات سابقاً فإنها الآن أمام اختبار أزمة صحية كبيرة، تسبب فيها انتشار "كوفيد 19"، الذي ضرب الصين في نهاية 2019، وسرعان مع تحوّل إلى "جائحة عالمية".
أزمة كورونا أخطر من الأزمة المالية العالمية
الأزمة المالية العالمية في 2008 ضربت الاقتصاد المالي في الأصول المرتبطة بالرهون العقارية، وكما وصفها الملياردير جورج سوروس بأن الأزمة المالية العالمية في 2008 لم تنشأ بفعل عامل خارجي، بل بسبب "خلل متأصل في النظام المالي"، وأن أسواق المال ميَّالة إلى التوازن، وأي انحراف عن هذا التوازن يطرأ إمّا بشكل عشوائي، وإمّا نتيجة عامل خارجي مفاجئ لم تستطع الأسواق فهمه، والتعاطي معه حسب ديناميكيات حركتها.
حينها، أزمة الرهن العقاري تسببت في أزمة سيولة حادة، كان نتيجتها إفلاس بنك ليمان براذرز في 2009، والمعالجة كانت بضخ تريليونات الدولارات في شرايين النظام المالي، وعندما بدأت أزمة انتشار فيروس كورونا في ووهان الصينية نهاية 2019 كانت توقعات التأثير الاقتصادي والانتشار تعتمد على إعادة دراسة تأثير انتشار فيروس سارس بالصين في 2003، لكن اكتشف العالم أن هذه المرة الوباء أسرع انتشاراً، وأشد خطورة، ما جعل التوقعات الأولية متحفظة وغير دقيقة، نسبة إلى ضراوة انتشار (كوفيد 19) الذي تسبب في تحويل العالم إلى جزر معزولة، وأصبح التباعد الاجتماعي هو الوسيلة الوحيدة التي تحدّ من خطورة انتشار الوباء، ما جعل التأثيرات الاقتصادية أكثر.
بهذا الربط نفسه يجرى الآن إعادة دراسة تجربة الأزمة المالية العالمية في 2008، وتوقع تداعيات مشابهة لمسار الأزمة، حتى البنوك المركزية أعادت استخدام الأدوات القديمة نفسها التي واجهت بها أزمة 2008، لكن حينها لم تُغلق المدن، ولم يتوقف الطيران، وليس هناك حظر للتجول، ولم تتحوّل الدول إلى الطوارئ الصحية.
هذه التدابير المستخدمة لمواجهة انتشار الجائحة الآن أكثر فتكاً بالنشاط الاقتصادي، مقارنة بما حدث في 2008، وعليه استخدام الأدوات القديمة نفسها هو فقط يطفئ الحرائق في الأسواق المالية، لكن التأثير لا يصل إلى جميع القطاعات الاقتصادية المتأثرة فعلياً بالإجراءات المستخدمة في السيطرة على الوباء. ستكون الحاجة إلى خطط مالية من قبل الحكومات الآن ضرورة أكثر من أي وقت مضى.
سياسة إطفاء الحرائق ليست كافية
تحرّكت البنوك المركزية بالتزامن مع التراجعات الحادة التي ضربت الأسواق المالية العالمية أخيراً، وأقرّ البرلمان الألماني (بوندستاغ) خطة إنقاذ مالي يبلغ حجمها 1.1 تريليون يورو (1.2 تريليون دولار)، لمساعدة القطاعات المختلفة المتأثرة بتداعيات انتشار (كوفيد 19).
والكونغرس الأميركي أقرّ خطة ضخمة لمجابهة التداعيات يبلغ حجمها تريليوني دولار، تعادل 10 في المئة من نمو الناتج المحلي الإجمالي GDP لأميركا. هذه الخطة تتضمن دعماً مالياً مباشراً للأفراد حتى 1,200 دولار، وسوف يجرى تخصيص 367 مليار دولار للشركات الصغيرة لدفع رواتب الموظفين الجالسين في المنازل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمّا الفيدرالي الأميركي فمستمر في شراء السندات والأوراق المالية، مثلاً خلال الفترة بين 19 و25 مارس (آذار) 2020 اشترى سندات خزانة بما يعادل 587 مليار دولار، واشترى أوراقاً مالية مدعومة برهون عقارية بما يعادل 375 مليار دولار، وهذه المشتريات تعادل 2.7 في المئة من نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي.
وحسب تصريحات جيروم باول يوم الخميس الـ26 من مارس (آذار) 2020 فإن الفيدرالي سيستمر في برنامج التيسير النقدي، وشراء السندات لدعم الاقتصاد، وتوفير الائتمان، والسيولة للنظام المالي. وتشير التوقعات إلى أنّ الميزانية العمومية للفيدرالي سوف تزيد بـ6 تريليونات دولار.
تظل هذه السياسات والإجراءات التي تعيد البنوك المركزية استخدامها غير كافية في ظل استمرار انتشار الوباء، لا بدّ من رفع درجة التنسيق بين البنوك المركزية وتكامل السياسات المالية والنقدية لمجابهة الآثار الاقتصادية الكارثية التي تسبب فيها الوباء.
آثار "كورونا" الاقتصادية بدأت في الظهور
وأعلنت سنغافورة انكماش الاقتصاد في الفصل الأول من 2020 بـ10.8 في المئة خلال أول ثلاثة أشهر من هذا العام، وهذه القراءة الأضعف خلال عشر سنوات، وقطاع الخدمات انكمش بـ15.9 في المئة خلال أول ثلاثة أشهر من العام متأثراً بضعف قطاعات الفنادق والسفر والسياحة.
وخفضت سنغافورة توقعاتها لنمو الاقتصاد هذا العام بين 1.00 في المئة إلى 4- في المئة خلال الفصول الأربعة في 2020 من توقعاتها السابقة التي كانت (0.5- في المئة حتى 1.5+ في المئة). وسنغافورة أول دولة بآسيا تعلن نمو الناتج المحلي الإجمالي الفصلي، ومتوقع أن تعلن الدول بيانات النمو الفصلي خلال الفترة المقبلة.
وأعلنت وزارة العمل الأميركية الخميس الـ26 من مارس (آذار) 2020 إعانات البطالة الأسبوعية التي أظهرت تسجيل رقم قياسي كبير، إذ بلغ عدد المتقدمين لنيل هذه الإعانات 3.2 مليون عاطل بزيادة تجاوزت 3 ملايين طلب جديد مقارنة بالأسبوع السابق.
وهذا الارتفاع الكبير والرقم القياسي الجديد يعادل أربعة أضعاف آخر رقم قياسي لعدد إعانات البطالة، وهذه إشارة دالة ومؤكدة لتأثير التباعد الاجتماعي بسبب انتشار (كوفيد 19) في أميركا التي بلغت فيها الإصابات 69,045 حتى يوم الخميس الـ26 من مارس (آذار) 2020، وسجّلت أكثر من 830 إصابة جديدة خلال آخر 24 ساعة. وهذا العدد الكبير من الإصابات يزيد من تشاؤم الأسواق بشأن التأثيرات الاقتصادية على المستهلكين، وعلى القطاعات الاقتصادية المختلفة.