من بين الدروس العديدة المستفادة من انتشار فيروس "كورونا المستجد"، إدراكنا نحن البشر لمسألة انكشافنا الكبير على أعضاء مملكة الحيوان. ذلك أن أجسادنا باتت مشرعة لاستضافة الأمراض المستوطنة في الحيوانات، فيما ازداد اعتمادنا عليها في المختبرات لمعرفة كيفية مقاومة الأمراض التي استضفنا من لدنها. ومع تكثيف عمليات البحث عن العلاجات واللقاحات، أصبحت الحيوانات عنصرا رئيساً في جبهات حربنا ضد كورونا.
وما بين استضافة أجسادنا للفيروسات، ورحلة بحثنا المضنية عن مضاداتها، تقف حيوانات مختلفة اليوم على طرفي نقيض مع تفشي جائحة "كورونا المستجد". وإذا كان من شبه المؤكد أن "كورونا المستجد" بدأ بفيروس يحمله خفاش قبل أن يتحوّر داخل حيوان آخر (هو البنغول على الأرجح) خلال مسيرته المميتة نحو أجسامنا، فإن المؤكد أن الحيوانات التي سيعتمد عليها العلماء في اختباراتهم وتجاربهم المضادة ستكون الفئران بالدرجة الأولى. ومع تكثّف الجهود لإيجاد ترياق يقينا شرور "كورونا المستجد"، تتسابق المختبرات العلمية حول العالم للحصول على فئران "مهندسة وراثيا" تكون "مصممة" للعدوى بفيروس "كورونا المستجد". ذلك أن أعضاء الفئران تمتلك وظائف مشابهة نسبياً لوظائف الأعضاء البشرية، لذلك تكون ردود أفعالها تجاه العقاقير مشابهة لمثيلتها لدى الإنسان.
قبل أن يصبح اللقاح المضاد لفيروس "كورونا المستجد" صالحاً للاستخدام البشري، فإنه سيخضع لاختبار مكثف في المختبرات على الفئران.. لكن ليس أي نوع من الفئران
فئران الحظيرة
اعتاد الباحثون شراء فئران التجارب عبر شبكة الإنترنت. لكن ديفيد ماسوبست، الأستاذ المتخصص في علم المناعة، اختار طريقا أكثر صعوبة للحصول على هذه الحيوانات، لإجراء أبحاثه. فقد قاد سيارته متجها نحو حظيرة نائية تقع على بُعد كيلومترات عدة ونصب الشراك واصطاد تلك القوارض بنفسه. إذ كانت تراوده شكوك مفادها أن فئران التجارب التي تُباع في المتاجر وعلى شبكة الإنترنت تفتقر إلى بعض الخلايا المناعية الرئيسة، وأن أجهزة المناعة الخاصة بها "عديمة الخبرة" تجاه الفيروسات نتيجة إكثارها في منشآت نظيفة وصحية للغاية. وقد أجرى ماسوبست تجارب رسمية للتأكد من شكوكه على مدار عقد من الزمن، إلى أن اكتشف أنه كان على حق؛ ففئران التجارب التي كان يستخدمها المجتمع العلمي وشركات الأدوية العالمية لاختبار العقاقير واللقاحات المستخدَمة في علاج الأمراض التي تصيب البشر، ما هي إلا نماذج ضعيفة للجهاز المناعي في جسم الإنسان البالغ.
واكتشف ماسوبست وزملاؤه، أن الجهاز المناعي للفئران التي تُربى في المنشآت الخالية من الجراثيم، أقرب إلى الجهاز المناعي للأطفال منه إلى البالغين. فعلى سبيل المثال، لم يعثر فريق ماسوبست على "الخلايا التائية" التي تعد المستجيب الأول في حالة التعرض لعدوى لدى فئران التجارب "النظيفة"، لكنها كانت شديدة الوضوح لدى فئران "الحظيرة". والأهم من هذا وذاك، أنه عندما وضع الباحثون فئران تجارب "نظيفة" مع الفئران "الحظيرة"، نفق زهاء خُمْس المجموع جراء العدوى خلال أشهر قليلة، بينما طوّرت الفئران التي نجت أجساما مناعية أقوى، وتحول النشاط الجيني في خلاياها المناعية ليشبه ذلك الموجود لدى إنسان بالغ. وقد ساعدت دراسة ماسوبست كثيراً في تفسير أسباب الفشل الذريع لبعض العلاجات التي تُختبر على الفئران لدى تطبيقها على البشر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معايير الاختبار
وثمة بالطبع الكثير من الاعتراضات التي تسجلها جماعات الرفق بالحيوان بسبب إجراء الاختبارات على الحيوانات خصوصا عندما يتعلق الأمر بالحيوانات الرئيسة مثل القرود. لكن الباحثين يتجاهلون هذه الاعتراضات من منطلق حرصهم على تجنب أي "مخاطر جانبية" قد تتسبب بها اللقاحات الجديدة على البشر، إن لم يتم تجريبها على الحيوانات أولاً. ويشدد الباحثون في مجال علم الأحياء على عدم قدرة أي نوع من الحيوانات على استيفاء جميع متطلبات وأغراض الاختبار؛ إذ ثمة معايير عدة ينبغي استيفاؤها في ما يتعلق بكون حيوان ما مفيدا في اختبار اللقاحات في سبيل تأكيد الفاعلية الدوائية.
أول هذه المعايير، أن يكون الحيوان عرضة للعدوى، وهو أمر لا تمتاز به جميع الحيوانات. فعلى سبيل المثال، ولدى بداية تفشي جائحة "كورونا المستجد" في هونغ كونغ، زعم أحد الأشخاص أن الفيروس المستجد انتقل إلى كلبه. ونقلت الصحف المحلية أخباراً مفادها أن نتيجة تحليل الفيروس بيّنت إيجابية إصابة الكلب بشكل "ضعيف". لكن العلماء لم يعيروا مثل تلك الحالة المنفردة الغامضة أي اهتمام ولم يعدوها دليلاً على العدوى.
وحتى عندما يكون حيوان ما عرضة للعدوى، فإن هذا لا يعني أنه يمرض. وبهذا الصدد يقول الدكتور ستانلي بيرلمان، عالم الأحياء الدقيقة في جامعة أيوا والذي طور عام 2003 فأرا متكيفاً على العدوى بفيروس "سارس" وأطلق عليه اسم "فأر hACE2": "إذا لم يمرض الحيوان جراء العدوى، فإن استخدامه سيكون محدوداً، لأن اختبار فاعلية العلاج يتطلب مراقبة ما إذا كان العلاج يوقف الأعراض". وليس مطلوباً من الحيوان المخبري أن يصاب بالعدوى ويمرض فحسب، بل عليه كذلك أن يمرض بنفس الطريقة التي يمرض بها البشر، وأن يظهر مسارا مرضياً مشابها لنظيره لدى البشر. عندها فقط، يمكن للاختبار أن يعطينا أكبر قدر من النتائج الدقيقة. ويشير بيرلمان إلى أن سلالة فأر (hACE2) المستعدة للعدوى بـ"سارس"، مرضت ولكنها أصيبت كذلك بمرض دماغي بالإضافة إلى أعراض صحية أخرى.
وستُستخدم سلالة فئران (hACE2) في التجارب المخبرية الأولى لإنتاج لقاح مضاد لفيروس "كورونا المستجد"، ولكن ينبغي إكثارها أولاً. ومثل العديد من أصناف الفئران المهندسة وراثيا لا يحتفظ العلماء بمستعمرات حية لهذه المخلوقات في متناول اليد. بدلاً من ذلك، يتم الإبقاء على حيواناتها المنوية مجمّدة داخل قوارير محفوظة بشكل جيد. وقد تم تجميد برنامج إكثار فئران (hACE2) مع توقف تفشي فيروس "سارس" منذ زهاء 16 عاماً. لكن تشيان تي تسينغ، الباحث في الفرع الطبي لجامعة تكساس والذي طور طريقة جديدة لإكثار سلالة (hACE2)، بدأ اليوم إنشاء مستعمرة فئران من الحيوانات المنوية المجمّدة في مختبره في أعقاب تفشي جائحة "كورونا المستجد". وستستغرق فترة حمل الفئران الجديدة ثلاثة أسابيع، فيما يتطلب وصولها إلى مرحلة النضج الجنسي ثمانية أسابيع. أما الدكتور بيرلمان، فلا يقوم بإكثار السلالة بنفسه، وإنما اكتفى بإرسال 16 قارورة مليئة بالحيوانات المنوية المجمدة إلى "مختبر جاكسون" في ولاية ماين، وهو أحد أكبر مفرِّخات الحيوانات المخبرية، ليتمكنوا من إكثار أعداد هذا النوع من الفئران.
مستودع الفئران
ويأمل الباحثون أن تكون الفئران الجديدة جاهزة للتوزيع على مختبرات العالم بسعر التكلفة، بحلول شهر مايو المقبل، حسبما تقول كات لوتز، مديرة "مستودع الفئران" والمسؤولة عن آلاف السلالات بما في ذلك سلالة (hACE2) الجديدة، التي تتميز بامتلاك خلاياها "مستقبلات بشرية" تسمى مستقبلات (ACE2) التي اشتقت منها اسمها. وتسمح هذه الميزة للفئران استقبال عدوى "سارس" و"كورونا المستجد"، اللذين يستهدفان هذه المستقبلات أثناء محاولتهما اقتحام الخلايا البشرية. ومعلوم أن كل التجارب الحالية على الفيروس الحي لـ"كورونا المستجد" تتم داخل مختبرات آمنة بيولوجياً تتمتع بمستوى سلامة من "الدرجة الثالثة".
ويقول الباحثون في علم الأحياء إن ثمة طلبا كبيرا على هذه النوعية من الفئران، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما على صعيد العالم. ويشير الباحثون في "مختبر جاكسون" إلى أنهم يجتهدون في سبيل إيجاد طرق أخرى لجعل الفئران أكثر انفتاحاً للعدوى بفيروس "كورونا المستجد". ويقول الدكتور بيرلمان إنه "لا يوجد نموذج واحد للفئران يناسب كافة متطلباتنا. فبالنسبة لمرض السكري على سبيل المثال، لدينا ثمانية نماذج مختلفة من الفئران نستخدمها حسب المتطلبات المخبرية. وأعتقد أن الشيء نفسه ينطبق على كورونا المستجد".
ويخطط الدكتور مايكل دايموند، الباحث المتخصص في الأمراض المعدية بجامعة واشنطن في سانت لويس، لإجراء أبحاثه باستخدام فأر (hACE2) إلى جانب سلالات أخرى. ويقول دايموند "رغم أن الفئران تستغرق وقتا في التكاثر، إلا أن سلسلة إمدادها لا تزال أسرع من تلك المتعلقة بالحيوانات الأكبر حجماً"، مضيفاً أن الفئران تساعد العلماء "على اختصار الاختبارات اللازمة للوصول إلى اللقاح المضاد المناسب لفيروس كورونا المستجد".