في كل مرحلة إخفاق وتراجع داخليّ، أو في مجابهة لتحدياتٍ خارجيةٍ تمرّ فيها الأمة العربية، فإن العامل الروحيّ مهمٌ وضروريّ بغية شحن الهمم وتحفيز الإرادة وتحريك القوى الكامنة بالفرد في مواجهة الواقع وتغييره. إلا أن بعضهم، وفقًا لتصوراتهم، ينطلقون من مبدأ أن الإسلام يجمع بين الدين والدنيا، لذا تراهم يشكلون جماعةً أو حركةً أو حزباً سياسياً ذا طابع إسلامي، على اعتبار أن مسلكاً كهذا هو الأفضل عمليًا والأكثر صوابًا فكريًا لأنه ينبع من مفاهيم دينية خالصة.
وهنا تكمن المعضلة الشائكة والمزمنة، فالإسلام أكبر من أن ينحصر في فئة معينة ويتوقف على أفكارها ونهجها الديني السياسي. كما أن كثرة الجماعات تعني تعدد الأفكار والآراء والنظريات، وهذه بدورها تعكس الخلافات والتباينات عن بعضها بعضاً. والخطورة في هذا الاتجاه، أن طبيعة السياسة تغاير طبيعة الدين، الأولى ميدانها السلطة والحُكم وما يترتب على ذلك من صراعات ونزاعات وتجاذبات وتكتلات، والأخرى حقلها روحي يرتقي عن مادية الحياة. وبذا فإن أيّ خلاف سياسي بين الجماعات الإسلامية سيرتد سلبًا على الدين، بل ويخلق مشكلة قد تتطور وتشمل الدين نفسه، وفق تضارب فهم الدين عند كل جماعة. وهكذا تجد لغة التكفير عند الإسلاميين السياسيين منتشرة ومقبولة، وما يترتب عليها من سفك دماء الآخرين (معظمهم مسلمون)، أمرٌ يتمّ تنفيذه باستمرار من دون رادع ولا وزاع.
الحق، لا أود أن أكتب من منظور الناقد والداحض، إلى الإسلام السياسي، لكن التجارب أثبتتْ وما زالت تُثبتْ أن الحركات والأحزاب الدينية السياسية فشلت فشلًا ذريعًا عند وصولها إلى السلطة والحُكم وإدارة الدولة. فعن تجربة الإسلام السياسي في العراق بعد الاحتلال الأميركي في العام 2003، حدّث ولا حرج عن الأحزاب المقدسة: "حزب الدعوة الإسلامية" و"المجلس الأعلى الإسلامي" و"الحزب الإسلامي العراقي" وغيرها، التي دمّرت البلاد بالفساد المالي والإداري، والقتل الطائفي، والتهجير المناطقي، وتبديد الثروات والسرقات التي جعلت زمرة الأحزاب الدينية السياسية تمتلك ثروة لم يصلها قارون. ناهيك بأن تلك الأحزاب الدينية وصلت إلى السلطة بعد شرعنتها للمحتل الأميركي، والحُكم تحت بندقيته.
أما النظام الإسلامي الحاكم في إيران منذ العام 1979، فإن تجارب هذه العقود الأربعة ونتائجها، خير شاهد على عدم نجاعة الإسلام السياسي. إذ بالقدر الذي تعاني فيه الشعوب غير الفارسية: أحوازية وكردية وبلوشية، داخل إيران من تردٍ وتقهقرٍ وظلمٍ، فإن منطقة الشرق الأوسط تعاني من زعزعة الأوضاع بسبب سياسة المُلالي القائمة على بثّ النزعة الطائفية الهادفة إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وتعطيل الهوية الوطنية في كل بلد تتدخل فيه، وبالذات في البلدان العربية.
والأنكى من هذا وذاك، العمليات الإرهابية التي ترتكبها جماعات الإسلام السياسي، لاسيما المدعومين من النظام الإيراني أو تنظيم الإخوان الدولي، في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين والكويت والإمارات والسعودية وليبيا والجزائر والمغرب. مما جعل العديد من الدول العربية تتخذ قرارًا رسميًا بإدراج الجماعت الإسلامية السياسية ضمن قائمة الإرهاب.
في الجانب العربي، من دون قصد، يتم تنمية الإسلام السياسي داخليًا، وإرباك الأمن القومي العربي خارجيًا. إذ إن مجابهة التطرف الإسلامي والاستغلال الديني في مجال السياسة يجب مواجهتها: أولًا بالفكر والتوعية والحرية. وثانيًا بالشدة تجاه الذين لهم مخططاتهم السلبية في زعزعة الاستقرار.
إن الجانب العربي يمنح كذلك أرضية مجانية للنظامين الإيراني والتركي، بالتدخل إسلاميًا، وذلك بالتركيز على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة من منظور ديني وحسب. كما أن الاهتمام بالتاريخ العربي يكون من منطلق إسلامي غالبًا. علِمًا أن "الكعبة" موجودة في أرض العرب قبل الإسلام بقرون سحيقة، وأن للعرب حضاراتهم قبل الإسلام أيضًا. وعندما تخرج أصوات متكرّرة من إيران وتركيا تطالب المجتمع الدولي بتدويل "الحج"، فذلك ناتج من شرخ في الأمن القومي العربي. فالعرب مهبط الإسلام، وهم أول من رفع رآيته، وهذه الأولوية يجب أن تُصان وتُحترم لا أن يتقدم عليها الآخرون بدعوى أن الإسلام أهم وله الأولوية.
ولكي لا يساء فهمنا، فنحن لا نقصد رفع العرب على بقية المسلمين، لكن "التقوى" التي حدّدها القرآن لتكون معيارًا للتفضيل بين المسلمين عربًا وعجمًا، فإنها لا تعني تسيُّس الدين وتوظيفه كيما يكون مدخلًا إسلاميًا يسيطر فيه الغير على أي بقعة من بقاع العرب. فالتقوى هي طاعة الله ورسوله، والالتزام بتأدية الواجبات والفرائض الدينية لا أكثر. فالإمام غير العربيّ له مكانته وأفضليته وفق منزلته الدينية علميًا وعمليًا، لا شأن للسياسة فيه أو فيها.
ثمة أمر آخر، أن الإخوة بالإسلام لا تعني تأخير العربي وتقديم الأعجمي. فلو كان ذلك كذلك لاضطرب الإسلام وهو في مهده. وإذا أعتبر بعضهم أن مطالبة النظامَين الإيراني والتركي بتدويل الحج، لأسباب ومواقف سياسية وليست دينية، إذن علينا أن نجرّد الدين من السياسة. على الرغم من أن "ولاية الفقيه" في إيران تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية، فما يصدر منها هو الدين السياسي بذاته. وأن خطة "الطريق إلى مكة" لا يتراجع عنها نظام الولي الفقيه، لكن التحرك نحوها يقترن بما هو متاح في تنفيذه. إذ بعد الغزو الأميركي للعراق، وتمكّن إيران بالهيمنة والتحكّم في مفاصل الدولة والمجتمع، لم يتوانَ بعضٌ من الإيرانيين أو المواليين لهم في العراق عن التصريح علنًا في وسائل الإعلام، بأنهم قد حققوا نصف الطريق إلى مكة.
بعبارة أخرى، عندما يقول بعضهم إن "مكة" مركز الإسلام، وهذه مسألة لا خلاف فيها قط، ولكن هذه المركزية تمنح الجانبين الإيراني والتركي، وربما مستقبلًا تلحق بهما دول مسلمة أخرى، الحقّ في أن يتحركوا نحو تلك المركزية بدوافع سياسية مغلفة بالدين. وعليك أن تتصوّر إذا خسر العرب آخرَ وأهمّ بقعة مقدسة على الإطلاق، حيث لا يتحكمون فيها ولا يسيطرون عليها، بل عبر قوة دولية باسم الإسلام تدير شؤون الحج والعُمّرة. إن الذي يعتبر ذلك ضربًا من الخيال، عليه أن يقرأ التاريخ ويتبصّر في حقائقه؛ حيث حدث فيه ما هو أسوأ من فكرة التدويل، القرامطة إنموذجًا.
علاوة على ما ذكرناه آنفًا، فمن بين المشاكل التي تدعو إلى تجريد الدين من السياسة، يعود إلى الارتباط بدوائر غربية، كما هو الوضع مع "جماعة الإخوان المسلمين" منذ تأسيسها في العام 1928. حتى صارت الجماعة أداة يوظفها الغرب على مدى عقود، خصوصًا الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، في مجابهة الأحزاب الشيوعية والتيارات القومية سابقًا، والأنظمة الوطنية وكل ما لا يتلاءم مع السياسة الغربية لاحقًا. وعندما وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة في مصر في العام 2011، عبر المخطط الغربي لِما يسمى: "الربيع العربي"، فإنهم فشلوا وعُزلوا لعدم استطاعتهم إدارة الدولة وشؤونها في الشكل السياسي لا الإخواني. ويكفي أن نشير إلى تقرير "مجموعة الشرق الاستشارية" في واشنطن في العام 2014، بكشفها عن الدراسة السرية المشتركة لمدة نصف سنة ما بين سبتمبر(أيلول) العام 2010 إلى فبراير(شباط) 2011، والتي تمّت بين البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارتي الخارجية والداخلية بالعمل التحضيري لإستيلاء الإخوان المسلمين على السلطة في مصر وبقية دول العالم العربي.
أن تجريدَ الدين من السياسة يؤدي إلى نواحٍ إيجابية كثيرة تفيد الفرد والمجتمع والدولة على حدٍ سواء، ومن جملتها النقاط التالية:
أولًا: كشف الذين يستغلون الناس، لاسيما البسطاء والفقراء، عبر توظيفهم للدين في تحقيق مآربهم وغاياتهم السياسية بالوصول إلى السلطة لخدمة أغراضهم الخاصة التي لا صلة لها بالدين ولا بالناس. فالدين لا يقرّ ولا يبيح بأي توظيف أو استغلال يقع خارج نطاق الدين نفسه. وكذلك الناس لا ترضى أن تُسلب منها إرادتها وأفكارها باسم الدين.
ثانيًا: تعرية الأحزاب الدينية السياسية التي وصلت إلى الحُكم ومارست السلطة، لكن الشعب لم يلتمس منها تحقيق تلك الأهداف والمبادىء التي كانت تدعو إليها، بل طبّقت الفساد المالي والإداري والقتل على الهوية والتشريد والتهجير المناطقي، في العراق مثالًا. وكذلك ممارسة الاستبداد والاضطهاد بحقّ كل مَنْ لا يخضع لرؤية السلطة الدينية الحاكمة ومنهجيتها، في إيران أنموذجًا.
ثالثًا: إن مدخل الدين يكون للدين بكل ما يتطلبه من عمل صالح في الحياة الدنيوية، والعبادة الخالصة من أجل الحياة الآخروية. وإن باب السياسة للذين يتحملون مسؤولية عمل كهذا يخدمون فيه الشعب والوطن. فلا تسيُّس للدين ولا تديُن بالسياسة، حيث لا يجوز تمشية طرف على حساب طرف آخر.
رابعًا: بثّ التوعية والتنبيه تجاه خلط الدين بالسياسة، فالإسلام أسمى وأكبر من أن تحتكره جماعة معينة، تفرض نفسها على الآخرين باسم الدين. خصوصًا الجماعة التي تمارس التطرّف والإرهاب بسفك الدماء لإقامة دولة الإسلام. الدواعش والحشد الطائفي اليوم، الأزارقة والقرامطة في الأمس.
خامسًا: مجابهة الإسلام السياسي بالحجة والفكر الرصين، وتفنيد مزاعم الأحزاب الدينية السياسية، وفقًا لِما قدموه على أرض الواقع. إذ حتى الذين يعتبرون "حزب العدالة والتنمية" في تركيا مثالًا للإسلام السياسي الناجح، فإن ثقل الديون المتراكمة، والرشاوى الخفية المستمرة، والملاحقة الداخلية والدولية بحقّ الرافضين سياسة النظام، ستكشف حقيقة الأوضاع آجلًا أو عاجلًا.
إن التجارب الفاشلة والبائسة التي خاضتها الأحزاب الدينية السياسية في إيران والعراق وحراك ما يسمى "الربيع العربي" في بضعة بلدان عربية، كلها تشير بوضوح إلى أن لا مستقبل للإسلام السياسي. كما أن في ردّ الفعل تجاه الواقع المرير الذي خلقته الأنظمة الدينية السياسية، بدأت تتشكل ملامح واقع عربي جديد، آخذة صورته بالتبلور شيئًا فشيئًا جراء أستهداف المملكة العربية السعودية في شكل متواصل.
إذ بعد إنهيار الجدار العراقي ثم الجدار السوري، أصبحت السعودية أكثر عرضةً للاستهداف المباشر من إيران التي لم تخفِ مشروعها الصفوي الطائفي في البلدان العربية. وكذلك تركيا بعد استتباب الحُكم إلى "حزب العدالة والتنمية". وما بين إحياء الإمبراطورية الفارسية بعباءة الإسلام؛ والإمبراطورية العثمانية بقيادة إخوانية، لاسيما أن النظامين الإيراني والتركي يلتقيان في ما يسمونه الإسلام الأممي أو الإسلام العالمي، والذي يأتي على حساب الوجود العربي وأمنه القومي.
لذلك تجد الكثير من العرب، مشرقًا ومغربًا، يتكاتفون بالذود عن المملكة العربية السعودية، كونها العمق الإستراتيجي من ناحية، والوعي الجمعي تجاه سلبيات الإسلام السياسي من ناحية أخرى. إن الواقع العربي الجديد، وفق تصوري، في حاجة إلى رعاية رسمية بغية رسم الخطوط البيانية في مسار هذا الواقع، وكيفية الوقوف العلمي والفكري في وجه الذين يهدفون إلى زعزعة الاستقرار، وتحقيق الفوضى والاضطراب، كما حدث في العديد من البلدان العربية، ويحدث الآن في السودان، وما يُخطط له في الكويت كمدخل نحو بقية دول الخليج العربي. وكل ذلك جرى ويجري تحت رآية الإسلام السياسي. لذا فإن تجريد الدين من السياسة سيجعل كل طرف يعمل وفق مجاله من دون لبس ولا إرباك. ووضع كهذا، طبعًا، يؤدي إلى الاستقرار الذي بدوره يُحقّق النمو والتطور للفرد والمجتمع والدولة.