Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العيش مع شبح... "كورونا"

تجربة شخصية تحت ظلال الفيروس في مدينة فرنسية معزولة

إحدى محطات الحافلات في مدينة شانتيي وهي فارغة (اندبندنت عربية)

يكون كل شيء حولك على قيد الحياة. المقاهي، الشوارع، دور السينما، المكتبات العامة، المتاحف وحتى المدارس والجامعات، تكون عادةً مزدحمة بأشخاص يتحدثون ويضحكون ويتعانقون ويتشاركون الخيبات والانتصارات بالكثير من الفرح والألم. ومهما اختلفت طريقة عيشك اليومي، محبّاً، متفائلاً، متثاقلاً، أو متشائماً لا بد وأن تكون محتفظاً في مخيلتك بآمال وخطط تبقيك حياً، فهذا منطق الفطرة الإنساني. 

لكن... وما إن تلوح في الأفق البعيد ملامح العدم، ستُمحى الآمال ويصمت الجميع، إذ لا شيء سيعلو على صوت الفناء.. خاصةً وإن جاء على هيئة وباء يُشاع بأنه سيحصد أرواح الملايين...

 

حصار الكورونا

في مدينة شانتيي Chantilly التي تعكس صورة البرجوازية الفرنسية، حيث كل شيء يبدو أنيقاً، هادئاً ومترفاً لأقصى حدود الجمال، عرفنا قبل أسابيع أن مدينة ووهان الصينية أصبحت عاصمةً وموطناً لفيروس الكورونا أو كما يعرف علمياً باسم "كوفيد 19". وفي الحقيقة لم يكن الاكتراث كبيراً، بغض النظر طبعاً عن التعاطف الذي صدر عن البعض كنوع من المجاملة أو الإتيكيت اللازم ضمن الأحاديث اليومية. ومع انتشار العدوى شيئاً فشيئاً إلى أن وصلت أوروبا ومن ثم فرنسا، أصبحت المجاملة حقيقة صادقة ما لبثت أن تحوّلت إلى خوف حقيقي عندما تمّ الإعلان عن إصابة في إقليم "الواز" الذي يضمّ عدة مدن من بينها شانتيي.  

أيام قليلة لزمت خوفنا ليندرج تحت ما يطلق عليه "الهوس المرضي" مع انتشار التقارير الصحية الإخبارية التي اعتبرت إقليم "الواز" أكثر المناطق تأثراً بالفايروس في فرنسا، تحديداً بعد وفاة أستاذ تكنولوجيا في مدرسة إعدادية، من الطبيعي أنه كان على اتصال بالكثير من الطلاب الذين سينقلون أو نقلوا العدوى بدورهم إلى عائلاتهم.

تعتمد الحكومة الفرنسية خطة طوارئ من ثلاث مراحل في مثل الظروف الاستثنائية الراهنة، وللأسف، وبعد أن أثبتت المرحلة الأولى أنها غير كافية في درء الخطر بعد أيام من المباشرة بها، دخلت المدينة المرحلة الثانية معلنةً عن تعطيلها لنقاط الحياة فيها. فقد أعلنت توقّف العمل في المركز الثقافي، أغلقت أبواب المكتبة العامة في وجه السكان، أوقفت كافة النشاطات الفنية والموسيقية، وأخيراً صدر قرار بإغلاق المدارس ودور الحضانة ابتداءً من يوم الاثنين 9 مارس الجاري وحتى 15 يوماً على أقل تقدير. مع العلم أنه حتى قبل قرار إغلاق المدارس منع جميع الطلاب والمدرسين الذين يأتون إلى مدارس شانتيي ويسكنون خارجها من الدوام.

بدورنا... قمنا بتطبيق حجراً منزلياً اختيارياً على أنفسنا وعلى أفراد عائلتنا فالإنسان يشعر بالعجز والخوف أمام جهله لعدوه، وهو ما يجعل الوهم أضعافاً عما يكون في حالات الخطر الواضحة المعالم والحلول. فمجرد التفكير بأن أقوى الدول وأكثرها تقدماً في المجال التقني والطبي تقف عاجزةً أمام الحدّ من انتشار الفيروس ومنع تحوله لوباء، تدرك فوراً أنك ضعيف جداً، وأن جميع إجراءتك الحذرة تعني فقط تأجيل الإصابة وليس إلغاؤها.

تكمن المفارقة في أن هذه المدينة الصغيرة لم تسجّل حتى الآن إصابة واحدة، إلا أننا نعيش فيها حالياً طقس الرعب الذي يتزايد يوماً بعد يوم باطراد مع النمو المتسارع لأعداد المصابين في مدن الإقليم الأخرى... وكمقارنة بين انتشار الاثنين، أثبت الرعب أن انتشاره أسرع بكثير من الفيروس نفسه.

وبعيداً عن الضرر النفسي الذي لاقاه سكان المدينة تحت ظلال الكورونا، تعطّلت الكثير من الأعمال الخاصة والحكومية نتيجة امتناع الناس من ركوب المواصلات العامة ومخالطة بعضهم البعض في الزحام. ونتحدث بشكلٍ خاص عن أولئك الذين يعملون خارج المدينة سواء في باريس التي تبعد عنا حوالي 40 كيلو متراً، أو في المدن القريبة الحاضنة للإصابات أو تلك التي ما زالت تعيش ظروف شانتيي. عدا عن أن الكثير من المؤسسات والشركات قد صرّحت بإلغاء فعالياتها وإعطاء موظفيها استراحة غير معلومة النهاية.

اقتصادياً، أدّى شبح الكورونا إلى نتائج كارثية في المدينة. إذ قاطع معظم السكان المحال التجارية فيها نتيجة ملازمتهم منازلهم. ومن أجل مساعدة التجار في الوقوف على أقدامهم مجدداً، لفتت الصفحة الرسمية للمدينة عبر الفيسبوك إلى ضرورة دعم تجارتها، مؤكدةً أن "متاجرنا ليست مكاناً لانتشار فيروس كورونا.. أصحابها بحاجة دعمنا جميعاً". 

 

عرفنا قيمة التفاصيل الصغيرة

إذاً... الشبح على بعد كيلومترات قليلة، وها نحن اليوم نختبر التكيّف مع ما بقي من ملامح الحياة تحت وطأته. جميع الأمور غدَت غير منطقية وغير مفهومة. نصارع من أجل البقاء ضد عدو غير مرئي، مجهول، لا يمكن ملاحظته أبداً.. ضحاياه وحدهم الذين يتساقطون واحداً تلو الآخر كأحجار الدومينو هم المرئيون والمرثيون. في مثل هذه الحالات يُنصح بالخرس. فكل ثرثراتنا ليست مجدية على الإطلاق في حضرة الغزو الكوروني الخارق. 

بعض التفاصيل البسيطة والصغيرة التي كنّا نمارسها في عيشنا اليومي، لم نكن نعرف قيمتها، ولم نكن ندرك أهمية أننا لا نحسب لها ألف حساب.. كأن نخرج مع أطفالنا للمشي وللتسوق، أن نلمس المفاتيح والأبواب دون وساوس قهرية، زيارات الأصحاب والمصافحة بحميمية تليق بروعة اللقاء.. أن نستمتع بمشاهدة الأفلام في المنزل بعيداً عن شاشات الموبايل التي نراقب عبرها أرقام الإصابات والقوانين الجديدة الطارئة ساعةً تلو الساعة.

وبالنظر إلى الكوارث الإنسانية والطبيعية الأخيرة التي حدثت وما زالت تحدث في أماكن متفرقة من العالم، نجد أن كارثة فيروس الكورونا أكثرها عدلاً... وكما يقول الروائي السوداني أمير تاج السرّ في روايته "إيبولا 76": "الرعب له قانونه، وفي زمن الكوارث، لا يصبح الرعب طبقياً، تحمله الوجوه الخشنة والمتعبة فقط، ولكن تحمله أيضاً، وجوه أكثر البشر رقياً وتحصناً".

اليوم... جميع الوجوه في مدينة شانتيي متشابهة. إنها وجوهٌ خائفة يأكلها القلق. ملامحها مترقبة. العيون تدور في كافة الاتجاهات بحثاً عن مشتبه بأصابتهم. الآذان جاهزة لسماع سعال هنا أو هناك لتحذّر بقية أعضاء الجسد... والأنف يحاول جاهداً لتنقية الهواء الذي يستنشقه.

وفي النهاية.. .لا نملك سوى الحذر والخوف نواجه بهما عدوّنا الشرس الذي ليس له ملامح.

المزيد من صحة