Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المستشرق صوتشين: وجدانيات المتنبي تعبر آداب العالم

شاعر "الخيل والليل والبيداء" يترجم الى التركية للمرة الأولى وأثره بلغ الشعر العثماني سابقا

المتنبي تمثالاً في بغداد (صفحة المتنبي - فيسبوك)

ملخص

للمرة الأولى تترجم مختارات للمتنبي إلى التركية، وقد أنجزها المستشرق محمد حقي صوتشين، الباحث والأكاديمي المعروف عنه شغفه بالشعر العربي القديم والحديث، وخصوصاً بالشاعر الذي "شغل الناس وملأ الدنيا". عنوان المختارات هو "المتنبي: أغنية الإنسان"، وقد ضم أبياتاً ومقاطع من الشعر الوجداني الذي عُرف به شاعر "الخيل والليل والبيداء"، بعيداً من قصائد المديح والهجاء والرثاء.

لا شك في أن المستشرق التركي محمد حقي صوتشين هو من أشد المستشرقين أو المستعربين إتقاناً للغة العربية، فهو لا يجيدها قراءة وكتابة فقط، بل تمعناً في النحو والصرف. ولئن بدا أن معظم المستشرقين يقرأون العربية ويجيدونها بصفتها لغة استشراقية، فنادراً ما كتبوا بالعربية نفسها، فالمستشرق صوتشين يكتب بالعربية مثل أبنائها الذين يجيدونها، وله أبحاث ومقالات كثيرة في لغة الضاد. ولعل هذا ما يؤهله أكثر من سواه للتصدي لعيون الشعر العربي القديم، فهو ترجم المعلقات العشر وقصائد لشعراء عرب قدامى ومنهم ابن طفيل وابن حزم وأبو النواس وأبو تمام وأبو العلاء وسواهم، عطفاً على شعراء وكتاب معاصرين مثل جبران خليل جبران وأدونيس ويوسف الخال ومحمود درويش ونزار قباني ومحمد بنيس ونجيب محفوظ وغسان كنفاني وسواهم.

درس صوتشين اللغة العربية في جامعة أنقرة، ونال أولاً شهادة الليسانس، ودارت  دراسته الأكاديمية الأولى حول جبران خليل جبران، مما اضطره إلى ترجمة  كتب جبران الثلاثة، "الأرواح المتمردة" و"دمعة وابتسامة" و"العواصف"، وكانت من أولى ترجماته.  وانطلاقاً منها بات يعدّ جبران معلمه الأول في الترجمة من العربية. ثم واصل دراسته الأكاديمية ليحصل على الدكتوراه في الأدب واللغة العربيين، وينصرف إلى تدريسمها أكاديمياً.

وعلاوة على ترجمته من العربية إلى التركية، نقل صوتشين قصائد عدة من التركية إلى العربية، لا سيما من الشعر التركي الصوفي، ومن الشعراء: الشاعر الصوفي يونس إمره (القرن 13) والشاعر والفيلسوف أحمد يسوي (القرن 12). وترجم أيضاً قصائد لنحو 70 شاعراً تمثل مختارات للشعر التركي الحديث بكل أطيافه، وهو يعدها للنشر قريباً. وبذل جهداً مع زوجته التي هي شاعرة، من أجل اختيار القصائد، كي تشمل المختارات المشهد الشعري التركي الحديث.

المتنبي يكمل الشعرية العربية

كان صوتشين يرى أن ترجمة الشعر العربي القديم إلى التركية لا تكتمل من دون ترجمة المتنبي الذي شغف به منذ أن باشر قراءته وأكب على دراسته، وفي حسبانه أنه إحدى ركائز الشعرية العربية، القديمة والحديثة. ويذكر صوتشين أن المتنبي الذي لم تتم ترجمته إلى التركية، كان معروفاً في الماضي لدى بعض الشعراء الذين ينتمون إلى مدرسة "الديوان" المشهورة في المرحلة العثمانية، وقد ترك أثراً في شعراء عثمانيين مثل نفعي وباقي. وكانت النخبة الشعرية حينذاك، تتقن ثلاث لغات، التركية والفارسية والعربية. وبعض هؤلاء كتبوا قصائد باللغات الثلاث هذه. فاللغة التركية العثمانية كانت تختلط فيها هذه اللغات الثلاث، ولم يكُن من ضرورة حينذاك لترجمة الشعر العربي.

حقق صوتشين  أخيراً حلمه بترجمة المتنبي إلى اللغة التركية الحديثة، وهي تعدّ الاولى في هذا الصدد، فجمع 145 نصاً له اختارها من الديوان الكامل، وهي تراوح ما بين بيت واحد وبيتين وأبيات عدة، مما يُسمح بأن يطلق عليها تسمية "المقطّعات" الشعرية. ضم صوتشين هذه "المقطعات" في كتاب واحد صدر حديثاً بالتركية والعربية عن دار إفيريست.

 

العقبات الثلاث

ليست ترجمة المتنبي مهمة سهلة، هذا أصلاً ما اعترف به مترجموه إلى سائر اللغات. ولعل العقبة الأولى هي البلاغة والفصاحة والبيان وسائر المحسنات التي اختصرها أبو العلاء في عبارة "معجز احمد". وقد اجتمعت معاً في شعر المتنبي لتؤلف نسيجاً لغوياً جمالياً كلاسيكياً، فريداً ومتفرداً بذاته. العقبة الثانية هي الموسيقى العروضية التي برع المتنبي في صوغها وسبكها عبرإيقاعات وأصداء وتراكيب بديعة، تم درسها طويلاً. أما العقبة الثالثة فهي المعاني التي كثيراً ما أُغلقت على النقاد والقراء على مر العصور، ودارت حولها "معارك" نقدية كثيرة.

لكن صوتشين المفتون بالمتنبي، حاول تذليل هذه العقبات أو الصعوبات، بصفته باحثاً، درس المتنبي أكاديمياً ودرّسه ويدرّسه، فلجأ إلى أهم المراجع التي تناولته واعتمد منها شرح الواحدي وشرح أبي العلاء المعري المسمى "معجز أحمد"، وشرح أبي البقاء العكبري المسمى "التبيان في شرح الديوان" وشرح ناصيف اليازجي المسمى "العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب". ولعل هذه المراجع كافية، واكثر من كافية، في مجال ترجمة المتنبي.

يقول صوتشين خلال لقائي معه في معرض أبو ظبي رداً على سؤال عن مسألة الإيقاع في الشعر التركي: "عندما أترجم الشعر العربي، أسعى إلى عدم التضحية بالمضمون لمصلحة الإيقاع، وأعيد خلق الإيقاع الشعري نفسه. في  ترجمة الشعر العربي القديم، أعيد كتابة النص الشعري باللغة التركية، من خلال الإيقاع الداخلي والقوافي المنسابة، من دون أي تكلّف أو تصنع، يؤدي إلى هدم بنية القصيدة. أسعى دوماً إلى اعتماد لغة حديثة ذات نكهة كلاسيكية، الأمر الذي نتوقعه في ترجمات شكسبير ودانتي وغيرهما من الشعراء الكبار. أردتُ أن أقدم إلى القارئ التركي المتنبي، شاعراً عربياً وعالمياً كبيراً في وقت واحد. لقد استخدمت أعداداً متقاربة من المقاطع الوزنية للأبيات الشعرية، مع قوافٍ غير متكلفة، ومع الحفاظ على الإيقاع الداخلي في الترجمة".

اختار صوتشين عنواناً فريداً للمختارات هو "المتنبي: أغنية الإنسان"، ولعله بهذا العنوان أراد أن يؤكد اختياره مقاطع من الشعر الوجداني الذي كتبه المتنبي في لحظات الوحدة والعزلة، والانطواء على النفس والإصغاء إلى الذات العميقة، بعيداً من قصائد الهجاء والمديح والحماسة والتفاخر والعظمة... ويرى صوتشين أن القصائد الوجدانية قادرة على عبور حدود الجغرافيا، جاعلة من المتنبي شاعراً إنسانياً يتوجه بشعره إلى العالم. ولعل هذا ما يعبر عنه صوتشين في مقدمته، كما يقول. فشعر المتنبي بنظره، هو أغنية الإنسان على مرّ العصور، فالأعمار تتغير وكذلك الأشخاص والقصائد، لكن الأغنية تظل دائماً كما هي. وبرأيه أن المتنبي بالنسبة إلى العرب، هو ما يمثله دانتي أليغييري للإيطاليين وويليام شكسبير للبريطانيين وغوته للألمان وفيكتور هوغو للفرنسيين.

قراءة محمد نور الدين

وبغية الاطلاع على رأي باحث في الأدب التركي حول هذه الترجمة بعد قراءته إياها، طرحت أسئلة على الدكتور محمد نور الدين، صاحب الأبحاث في الأدب التركي ومنها دراسته المهمة والأكاديمية عن الشاعر ناظم حكمت، ومما قال: "كلما عرف المرء بخبر ترجمة شعر من لغة إلى أخرى يضع، كما يقال ’يده على قلبه‘. فالشعر يمتاز عن كل الفنون الإبداعية الأخرى بالإيقاع الذي يفترض أن يكون ملازماً له سواء الخارجي أو الداخلي أو ’حركة الاستطراد‘ المتبادل للمفردات. هذا يرتبط بالشعر الحديث والمعاصر فكيف إذا كان الأمر يتعلق بشعر عربي كلاسيكي و"صعب" ويعود لأكثر من ألف عام. مع ذلك فإن ما قرأته من ترجمة لمختارات من شعر المتنبي قام بها الدكتور محمد صدقي صوتشين كان خيالياً ومذهلاً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ويقول نور الدين: "ربما شعرت بأن المتنبي إذا "عرف" بهذه الترجمة، فهو سوف يواصل "نومه" مطمئناً. فصوتشين يمتلك اللغة العربية أولاً ويمتلك الحساسية الشعرية العالية من جهة ثانية. حتى إذا ما انقاد المعنى له، وهو أولوية مطلقة حتى في الترجمة الشعرية، كانت المفاجأة في طريقة الكتابة بشعرية تركية إيقاعية خارجية وداخلية. وهذا ربما ما تفتقده ترجمات أخرى كثيرة للنصوص الشعرية".

ويضيف: "أكثر من ذلك، إن صوتشين جاء إلى المتنبي بعد تجربة طويلة في التعاطي مع نصوص أخرى عربية كلاسيكية وحديثة. أعطى صوتشين لترجمة المتنبي عصارة تجربته. لذا لم يرغب في أن يغترب المتنبي حتى عن لغته. فجهد صوتشين وبسلاسة في تطويع النص للغة شعرية تركية كلاسيكية "محدّثة" فجمع بين ’روحين‘، الماضي وزناً وقوافي، والمعاصَرة بمفردات حديثة. أعتقد بأن المواءمة بين الأمرين ليس أمراً سهلاً. لكن صوتشين نجح في ذلك".

وعن تلقي القارئ التركي للترجمة وللمتنبي نفسه يقول: "أجزم بأن رد فعل القارىء التركي سيكون إيجابياً. لا شك في أن الأتراك لم يعتادوا على شعر المناسبات كما هو عند العرب، لكنه يحضر أحياناً في قصائدهم الكلاسيكية التي لا تعود لأكثر من قرون عدة، ويعرف باسم الشعر الديواني. وما قام به صوتشين هو التقليل من شعر المناسبات، لا سيما المتعلقة بالفخر والحماسة، والتركيز على البعد الوجداني والإنساني من شخصية قصائد المتنبي".

ويضيف: "المهم هنا في ما يقوم به صوتشين أنه ينقل القارئ التركي من مرحلة التعرف إلى الشعر العربي المعاصر، وهذا ديدن معظم المترجمين، إلى التعرف إلى الشعر العربي الكلاسيكي، بل روائع هذا الشعر بالذات وفي مقدمها قصائد المتنبي وقبلها امرؤ القيس. بتقديري، الأهم أيضاً هنا أن صوتشين ينقل هذا الشعر بأمانة تراعي خصائص المرحلة القديمة والحديثة وبشعرية تامة. ومن بعدها للقارئ التركي حرية القبول أو الرفض".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة