Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خالد زيادة: مصطلحات المثقفين المصريين عن الحرية لا تعني الناس

كتابه "مصر الثقافة والهوية" يبحث في تعقد العلاقة بين الثقافة والسلطة ويرى أن ثمة شعوراً في القاهرة بعدم الحاجة إلى التواصل مع الخارج

المؤرخ والباحث خالد زيادة (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

يبحث كتاب "مصر الثقافة والهوية" للمؤرخ والأكاديمي اللبناني خالد زيادة الذي شغل منصب سفير لبنان السابق لدى القاهرة لسنوات عدة في تاريخ مصر منذ القرن الـ19، تاريخ دخول الحملة الفرنسية في 1798 وحتى السنوات الـ10 الأخيرة التي أعقبت احتجاجات2011. ويستنتج الباحث خلاصات مهمة حول العلاقة المعقدة بين المثقف والسطلة في مصر 

يرى خالد زيادة في كتابه "مصر الثقافة والهوية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) أن مصر مثلت نموذجاً متقدماً في محيطها الإقليمي بدءاً من عام 1798 ونجحت في تفكيك بنى السلطة التقليدية، وبناء مؤسسات الإدارة والحكم على النمط الغربي كما قامت بتأسيس جيش حديث في عهد محمد علي باشا ووضعت بنية التعليم الحديث في عهود خلفائه. وعبر تلك المسيرة أصبحت مصر بلداً تسمح تجربته التاريخية بتعقب التحولات التي عبرت عن بروز المثقف وبناء الدولة الوطنية وصراعات الهوية، مما جعل تاريخها يحفل بكثير من الأمثلة حول تعقد علاقة المثقف بالسلطة ومساهمته في بناء السياسات وصياغة الهوية الوطنية.

يعمل زيادة على تأصيل دور المثقف في مصر تاريخياً من خلال التطرق إلى ثلاث حقب كبرى مر بها العالم العربي، الأولى هي مرحلة النهضة والإصلاح التي تواكبت مع ظهور التنظيمات العثمانية في النصف الثاني من القرن الـ19، والثانية شهدت محاولات الاستقلال وبروز النزعة الوطنية مع هيمنة نسبية للأفكار الليبرالية، أما الثالثة فجاءت مع مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار، من طريق الثورات والانقلابات العسكرية التي توالت بعد عام 1952.

كيان مستقل

يلاحظ الباحث أن التغييرات التي أحدثتها دولة محمد علي وخلفائه حتى نهاية القرن الـ19 غيرت علاقة المصري بالحكم، وأسهمت في تكوين بيروقراطية إدارية، ثم أدت إلى نمو طبقة من الملاك بفعل التشريعات التي سنت، وأسهم تفاعل تلك القوى في بروز فكرة الدستور التي تعني أن مصر هي كيان له خصوصيته، وقائم بذاته، على رغم هشاشة الارتباط بالخلافة العثمانية، وبفضل هذه الخصوصية تبلورت فكرة الوطنية المصرية.

ويطرح زيادة مزيداً من الأفكار حول تجربة الخديوي إسماعيل في التحديث، وكيف كان عهده امتداداً لعهد جده، وكيف انتهج في العمارة نهجاً أوروبياً، إذ أصبحت النماذج الأوروبية هي التي تقود الإصلاح، وكان بناء القاهرة الخديوية الجديدة عنواناً لتلك المرحلة. ويلاحظ زيادة أن هذا التوجه أدى إلى وجود مدينتين متقابلتين: الأولى هي المدينة الحديثة الآخذة في التوسع والنمو، والثانية مدينة قديمة تعمل فيها معاول الهدم وشق الطرق. وما يجري اليوم من نقاشات حول العاصمة الإدارية الجديدة في القاهرة، يرى زيادة في حوار مع "اندبندنت عربية" أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر لا يلبي أغراضاً تجارية أو اقتصادية، مشيراً إلى بروز الفكرة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، لكنه لم يتحمس لها، غير أنها عادت إلى البروز بعد احتجاجات الـ25 من يناير (كانون الثاني) 2011، ذلك أن المقار الرسمية لمؤسسات الدولة حوصرت من المتظاهرين.

ويتوقع السفير اللبناني السابق لدى القاهرة أن يكون سكان المدينة الإدارية الجديدة مرتبطين على نحو أو آخر، بالدولة وإداراتها، بالتالي فإن المدينة الجديدة تلبي حاجة أمنية بالدرجة الأولى. ويوضح زيادة الذي كتب مؤلفات مهمة عن المدينة العربية والحداثة أن الخديوي إسماعيل أراد كما هو معروف أن يبني "باريس على ضفاف النيل" مدفوعاً بمعرفته الوثيقة بباريس، فضلاً عن إعجابه بإجراءات البارون هوسمان الذي هندس باريس الحديث.

ورافقت تجربة بناء القاهرة الخديوية تياراً جارفاً للتحديث العمراني كان يكتسح مدناً أخرى، مثل بيروت وأزمير وإسطنبول، وكان إيمان التحديثيين بأن ذلك أمر لا بد من السير باتجاهه من دون التفكير بالنتائج أو العواقب. وأدى الأمر إلى انقسام حاد بين المدينة التقليدية والمدينة الحديثة، وهو انقسام ثقافي وطبقي. ذلك أن سكان المدينة الحديثة كانوا، إضافة إلى الجاليات الأجنبية، هم من أبناء البلاد الذين نالوا قسطاً من التعليم الحديث وتعلموا لغة أجنبية، إضافة إلى ارتباطهم بالاقتصاد العالمي، خصوصاً من طريق انخراطهم في التجارة أو في مزاولة أعمال تخدم الاقتصاد الجديد. ووفقاً للكتاب أسهم المثقف الذي ولد في عصر النهضة والإصلاح في "علمنة" الدولة وأوربة الحياة الاجتماعية في المدن، وفي تبني الدعوة إلى تحرير المرأة في حقبة انحسرت فيها الثقافة التقليدية، وتراجع معها نفوذ المؤسسات الدينية.

يتوقف زيادة أمام مفارقة لافتة في شأن رد الفعل على تغريب المجتمع وعلمنته واللذين جاءا من داخل المعاهد التعليمية التي عول عليها المثقفون الليبراليون بأن تكون أداة لتقدم المجتمع واعتناق القيم الحديثة. وقد شهدت ثلاثينيات القرن الماضي نمواً للحركات الأيديولوجية التي عبرت عن نهوض قوى اجتماعية جديدة. فقد ولدت حركة "الإخوان المسلمين"، كرد فعل على ما اعتبرته عمليات "تغريب"، وظهر كذلك التيار الاشتراكي وتيارات فاشية شعبوية تتمثل في جماعة "مصر الفتاة"، بدافع التأثر بالتيار القومي الناشئ في إيطاليا.

وبحسب الكتاب تمثل معاهدة 1936 نهاية المرحلة الليبرالية، وتظهر السنوات التي تلتها، تراجع مثقفي مصر لمصلحة بروز الداعية الأيديولوجي، وبلغت الليبرالية المصرية، كما يقول الباحث، سن الشيخوخة مع مطلع الخمسينيات من القرن الـ20، وانكسرت أمام حركة الضباط الأحرار في الـ23 يوليو (تموز). 1952، وهي الحركة التي قادت المنطقة كلها نحو مرحلة جديدة اتسمت باحتكار كل ما يمت إلى أدوار المثقفين بصلة، بحيث أصبح النظام هو الذي يحدد الهوية، وهو الذي يستخدم المثقف لترويج سياساته.

ويشير زيادة في الحوار إلى أن "الهوية الوطنية لا تقوم فقط على الأفكار والرغبات والشعارات، لكنها تحتاج إلى قوى وأسس ورموز". ويوضح أن "طبقة الملاك في مصر عند نهاية القرن الـ19 لعبت دور الطبقة الرافعة لإقامة حياة سياسية برلمانية". ويلفت إلى أن "الدولة المصرية تكونت على ركيزتين، هما الجيش والبيروقراطية. والمبشرون المبكرون بالوطنية المصرية، من أمثال رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، كانوا مدركين أهمية إيجاد المؤسسات الرمزية التي تدعم وتؤكد الوطنية مثل المدرسة والصحيفة ومؤسسات التعليم والمتاحف". ويرى زيادة أن "وجود مثل تلك المؤسسات أغنى الرأسمال الرمزي للوطنية، لكن المجتمعات والدول تظل في حاجة دائمة إلى تجديد الرموز وتعزيزها، إذ ينخفض تأثير بعضها وتتحول وظيفته، أو تستخدم وفقاً لحاجات السلطة".

ووفقاً لزيادة فإن الطهطاوي وعلي مبارك "يمثلان مرحلة الانفتاح على الثقافة الغربية من خلال المنظور الإسلامي، خلال فترة ساد فيها الاعتقاد أن من الممكن انتقاء ما يلزم من الثقافة والتقنيات الأوروبية، وإهمال عقائدها وأخلاقها". ويضيف، "ثم جاءت مرحلة أخرى انخرط فيها المثقف في عملية بناء الدولة، كعضو في مؤسساتها وخبير وسياسي، كما حصل مع أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين. وأمثال هؤلاء اعتقدوا أنهم يسهمون في بناء دولة لم تكن قد اكتملت معالمها. وعادة ما انخرط هؤلاء وسواهم، في السياسة المباشرة، ليس فقط بسبب رغباتهم، ولكن للشعور العام بأن رجال الفكر يمثلون قيمة مضافة، وما زالت الدولة في حاجة إلى أفكارهم".

يستند زيادة في تحليله إلى كثير من المؤلفات التاريخية والفكرية التي كتبها مؤرخون ومفكرون مصريون، من أمثال أحمد لطفي السيد وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وطه حسين. غير أنه ينوه إلى "أن جزءاً كبيراً مما كتبه هؤلاء يرتبط بزمنه، فما كان هؤلاء فلاسفة أصحاب نظريات بقدر ما كانوا تربويين، وكان فكرهم التربوي مرتبطاً بمعرفتهم بالثقافة الغربية مباشرة أو بالواسطة". ويعد أن هؤلاء الرواد "قاموا بأدوار بارزة في زمنهم، وقد قرأ المصريون أعمالهم، مثلما قرأها العرب حتى الخمسينيات والستينيات من القرن الـ20، والواقع أن هذه الأعمال صارت جزءاً من التاريخ الثقافي المصري والعربي".

ويقول زيادة، "طه حسين كان أوسع هؤلاء اطلاعاً، سواء على التراث العربي القديم أو الثقافة اليونانية والأفكار الغربية الحديثة. وقد كان أديباً وروائياً، وكل ذلك أسهم في صنع شخصيته المنوعة والجريئة، وقد أصبح رمزاً ثقافياً مؤثراً" .

المشروع المجهض

ويشير إلى أن كتاب طه حسين الشهير "مستقبل الثقافة في مصر" يحمل في صورة أساس مشروعاً تربوياً في لحظة تفاؤلية بأن مصر قد نالت استقلالها بعد معاهدة 1936، "لكنه ينتمي إلى حقبة ساد فيها الاعتقاد لدى النخبة المتعلمة، بأن التربية هي الوسيلة التي تفضي إلى رقي الأفراد وتقدم المجتمع. لهذا طالب باعتبار التعليم حاجة إنسانية مجانية كالهواء والماء".

وينوه زيادة بأهمية كتاب "في أصول المسألة المصرية" للمفكر الراحل صبحي وحيدة، مؤكداً أن في الكتاب تشخيصاً دقيقاً لإخفاق الليبرالية، أو المشروع التربوي الذي يقول إن التعليم هو سبيل الرقي والتقدم. ويلاحظ زيادة أن "وضع المثقف تغير تماماً مع ثورة يوليو والعهد الناصري، الذي رأى أن على المثقف أن يخدم نظام الدولة، وأن يكون داعية لعقيدتها. من هنا، كانت القسوة الشديدة التي عرفها عهد عبدالناصر تجاه الذين لا يدينون بالولاء لعقيدة الدولة، سواء كانوا من (الإخوان) أو الشيوعيين حتى تم تطويع الأخيرين". ويلفت إلى أن "جمال عبدالناصر كان حريصاً على استدراج تأييد رموز العهد الليبرالي من المثقفين، وحصل ذلك بالفعل بدرجات متفاوتة، لكنه ظل متشدداً مع سائر المثقفين والكتاب الذين خضعوا للرقابة من دون استثناء".

ويكشف زيادة عن أن كتاب "أزمة المثقفين" للصحافي البارز محمد حسنين هيكل عام 1960 يكشف عن موقف ثورة يوليو من المثقفين، ومن دون أن يذكر أسماءهم، يقول، "أن هؤلاء الكبار قد أعطوا ما لديهم ولم يعد لديهم ما يقدمونه". بالتالي يفسر هيكل الموقف الفعلي لنظام يوليو وعبدالناصر، بمعنى أن على المثقفين أن يواكبوا ما أحدثته الثورة من تغيير في مصر وأن يكون دعاة لها. ويقر الباحث بأن الأثر السلبي على الثقافة في الفترة الناصرية جاء من فرض الحصار على الثقافة الوافدة. فإضافة إلى تأميم التعليم وإغلاق المدارس الخاصة الأجنبية، حصل إغلاق أبواب مصر أمام الآداب الأجنبية والكتب التي تأتي من أوروبا والعالم الخارجي.

ويرى زيادة أن "عزلة ثقافية فرضت على مصر، ويبدو أن آثارها ما زالت مستمرة ليس بسبب الرقابة حصراً، ولكن بسبب القطيعة المديدة التي جعلت الثقافة المصرية مكتفية بما تنتج من دون اكتراث بما ينتج خارج مصر، على رغم من الجهود التي يبذلها المركز القومي للترجمة من نقل آثار فكرية وسياسية وعلمية إلى العربية". ويؤمن زيادة بأن أحد ملامح الثقافة المصرية الراهنة يتمثل في انقطاعها عن التواصل مع التيارات الأدبية والثقافية والفكرية في العالم، ويلاحظ عن خبرة مباشرة، أن من المظاهر المركبة أن المثقفين المصريين عموماً ليس لديهم الشعور بالحاجة إلى التواصل والاطلاع على ما ينتج عربياً وعالمياً.

ويبحث خالد زيادة في الفترة التي أعقبت احتجاجات الـ25 من يناير 2011، والتي عاصرها من قرب، ملاحظاً أن ذلك الحدث الفارق حفز المثقفين في البداية على متابعة الأحداث والوقائع والانتصار لها وتجريد المقالات حول مآلاتها، لكنهم تحولوا إلى مراقبين وغير فاعلين بعد أن أحبطهم مسار التغيير ووجدوا أنفسهم خارج التأثير والفعل. يقول زيادة، "حضر المثقف في الفترة الانتقالية وما تخللها من صراعات وتجاذبات، ولكن حسم الصراع أدى تدريجاً إلى تغيب المثقف وتهميشه والاستغناء عنه، وأظهرت التطورات في مصر عدم حاجة السلطة إلى الثقافة، إلا في المناسبات، وبينت الأحداث أن خطابات المثقفين ومصطلحاتهم ومفرداتهم ودعواتهم إلى الحرية والتنوير والتقدم، لم تعد تصلح لمخاطبة الشعب، بل أصبحت المصطلحات بحد ذاتها حاجزاً بين المثقف وجمهوره الافتراضي".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة