نُقل عن بوريس جونسون تهديده بالانسحاب من مباحثات "بريكست" مع 27 دولةً ذات سيادة ما لم تستسلم تلك الدول لمطالبه. قد يمثل هذا التهديد "لحظة قناة السويس" الخاصة به والشبيهة بتلك اللحظة التي عاشها سلفه أنتوني إيدن في 1956 عندما غزا مصر.
فحينذاك اعتقد إيدن، وهو رئيس وزراء بريطاني آخر درس كجونسون في مدرسة إيتون الأرستقراطية، بأن الأمّة والعالم سيدعمان قراره الذهاب إلى الحرب مع مصر بعدما أمّم جمال عبد الناصر قناة السويس وحوّلها إلى ملكية عامة.
ويبدو أن جونسون يعتقد، هو الآخر، أن الأمّة البريطانية والرأي العام العالمي سيدعمان قراره بإيقاف المباحثات مع الاتّحاد الأوروبي، إذا لم تنلْ بريطانيا وضعاً خاصاً بحلول يونيو (حزيران) المقبل، وإذا اختار مغادرة المملكة المتّحدة الكتلة الأوروبية من دون أي صفقة، بدلاً من الاستمرار بالمداولات.
قد يكون على صواب، فهو سيلقى الدعم من صحيفتي "ذي ديلي إكسبريس" و"ذي صن"، لكنه ربما يكون مخطئاً في تقدير مدى رغبة بريطانيا في خوض حربٍ مع حوالى 450 مليون مواطن أوروبي.
وخلافاً للحظة الأكثر روعةً التي عاشتها البلاد عام 1940 عندما كان هناك تهديد حقيقي لبريطانيا، فكلّ ما تريده بقية دول الاتحاد الأوروبي الـ 27، هو الحفاظ على الحدود مفتوحةً مع المملكة المتّحدة، والترحيب بالأعمال التجارية البريطانية، والسماح للبريطانيين بمواصلة العيش والعمل أو التقاعد في المناطق الأكثر دفئاً في أوروبا.
قد يحاول جونسون ارتداء بزّة العمل الخاصة بتشرتشل والظهور بمظهر رئيس الوزراء الأسبق الذي قاد البلاد إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، تماماً كما كان يعتقد أنتوني إيدن أنه من خلال مهاجمته لمصر، كان يدافع عن المصالح الغربية الأساسية ضد ديكتاتور غير سوي في القاهرة.
لكن العالم كان يراقب برعب. واتّصل آنذاك الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور بإيدن ليسأله "أنتوني، هل أنت مجنون؟" وحرمه من إمدادات النفط الأميركية والدعم المالي. فاضطُر أعضاء حزب المحافظين، من غير الموالين المبتذلين والانفعاليين سليطي اللسان ضدّ عبد الناصر، إلى التزام الصمت المطبق.
يجب على بوريس جونسون أن يحذر من النائب ستيف بيكر، رئيس "مجموعة الأبحاث الأوروبية"، وهي مجموعة ضغط تضمّ النوّاب المناهضين للاتّحاد الأوروبي الذين قاموا بكل جهود التنظيم والتنسيق من أجل جعل حياة رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي مستحيلة، وإحلال جونسون محلها.
وقد تنحّى بيكر للتو عن رئاسة "مجموعة الأبحاث الأوروبية"، لأنه يعتبر أن الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي قد تحقّق. بالتالي، فإن مهمة المجموعة قد أُنجزت. إنه ليس بمثقّفٍ أو بمنظّرٍ سياسي، لكنه كان يتقن الحديث بطلاقة وعمل على توحيد جهود مجموعته.
ويجري استبدال مارك فرانسوا ببيكر. ومعروف عن الرئيس الجديد أن حملته الانتخابية تمثلت في التنقل سيراً ضمن دائرته الانتخابية مع كلبه البولدوغ الملفوف بالعلم البريطاني الذي يغطي جسده كالمعطف، مؤكداً للجميع على اختلاف مواقفهم استنكاره لوجود مهاجرين في بريطانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان وليام هيغ، زعيم أسبق لحزب المحافظين قد عيّن فرانسيس عام 2005 وزير دولة مكلف ملف أوروبا في حكومة الظل، وذلك في محاولة لمحاباة نزعة الميل المتنامية في أوساط حزب المحافظين إلى حزب "استقلال بريطانيا"، المعادي لأوروبا. وعندما أصبح هيغ وزيراً للخارجية عام 2010، نقل فرانسوا من وزارة الخارجية إلى منصبٍ ثانوي في "مكتب انضباط نواب الحزب" بمجلس العموم، لأنه سيكون من المحرج للغاية إرسال مسؤول لديه رهاب فظّ من أوروبا إلى عواصم دول الاتّحاد الأوروبي لتمثيل المملكة المتّحدة.
ويُتوقع من فرانسوا أن يردّد مواقف رئيس الوزراء المناهضة للاتّحاد الأوروبي، لكن هناك تناقضاً داخلياً بين اعتقاد بيكر بأن خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي قد تحقّق، وأي تصريح مستقبلي من جانب جونسون مفاده بأنّ هذه ليست هي الحال، وأنه يتعين على المملكة المتّحدة أن تمزق كلّ شيء من خلال إدارة ظهرها للمحادثات مع أوروبا.
في عالم يخشى مخاطر فيروس "كورونا" وغير واثق من الميول الانعزالية والحمائية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فإنّ بريطانيا التي ترفض كلّ تعاون وحوار صبور مع بروكسل ستبدو كدولة أساءت التقدير بشكل كبير.
وسيضطر المحافظون إلى زيادة الضرائب أو مضاعفة الاقتراض الحكومي بشكل كبير، الأمر الذي حذّر منه وزر المالية السابق ساجد جاويد في خطاب استقالته. وسيتعيّن على الحكومة أن تتّخذ قريباً قراراتٍ ستزعج عدداً كبيراً من الناس وتثير غضب قطاع الأعمال.
وقد نددّت مينيت باترز، وهي رئيسة "الاتّحاد الوطني للمزارعين"، بالاقتراح الذي قدّمه بعض الوزراء بفتح رفوف محلات السوبر ماركت في المملكة المتّحدة للأغذية التي تُنتج وفقاً لمعايير أقلّ أماناً بكثير، من قبل عمالقة الأغذية والزراعة الأميركية الفاسدين، معتبرةً أنه اقتراح "غير أخلاقي ومجنون". ويجب الانتباه إلى كلامها هذا على أنه طلقة تحذير.
يقف نوّاب حزب المحافظين الذين يمثّلون الدوائر الزراعية في بريطانيا إلى جانب المزارعين. ولا يمكن للنوّاب المحافظين الذين يمثّلون دوائر "الجدار الأحمر" (يضمّ مناطق في وسط إنجلترا وشمالها) أن يشعروا بالارتياح لسماع الرئيس التنفيذي للعمليات الأوروبية في شركة "نيسان" يقول إن حرمان السيارات المنتجة في سندرلاند من إمكانية الوصول الحالية إلى الأسواق، يعني أن ذلك المصنع في شمال شرقي إنجلترا سيُغلق.
فهل هذا هو الموقع الذي يريد أعضاء حزب المحافظين أن يكونوا فيه؟ إلى أين يذهب بوريس جونسون الذي يهدّد بالانسحاب، معتبراً أن خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي لم ينجح، وأن الحرب ضدّ أوروبا يجب أن تستمرّ وتطول؟
أم أن هذا الأسلوب من التبجّح والإحاطة الإعلامية على غرار الموقف البريطاني من قناة السويس قبل 64 عاماً، هو مجرّد تكتيك؟ فهل يمكن لرئيس الوزراء أن ينتقل من معاداة القيم الأوروبية بكل ما في الكلمة من معنى إلى وضع أكثر عقلانية وهدوءاً وأقل إثارة؟
يصرّ ستيف بيكر على أن خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي قد حصل، وأن الأمر انتهى. لكنّ خطة جونسون للانسحاب من المباحثات قد تدلّ على أن معركة هذا الخروج بدأت للتو.
دينيس ماكشان هو وزير دولة بريطاني سابق مكلف ملف أوروبا. آخر مؤلّفاته كتاب صدر حديثاً بعنوان: Brexiternity: The Uncertain Fate of Britain عن دار I.B. Tauris للنشر
© The Independent