Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يوميات شاعر تزوج حديثا" لخيمينيز... الولادة من رحم الطبيعة

حكاية شهر عسل أم تاريخ للشعر منذ بدء الخليقة؟

الشاعر خوان رامون خيمينيز  (غيتي)

اسمها زنوبيا، لكنها بالتأكيد زنوبيا أخرى غير ملكتنا السورية الشجاعة. هي زنوبيا إسبانية التقاها مواطنها الشاعر خوان رامون خيمينيز ذات يوم عند أواسط العقد الثاني من القرن الفائت، وقرر أن يبني معها حياته المقبلة على الضد من كل ما كان قد قرره لحياته من قبل. تزوجها وقرر أن يقوم معها برحلة شهر عسل يتنقلان فيها ليس فقط بين البلدان بل بين القارات. قررا معاً منذ البداية أن تكون جولة ثقافية، فهو شاعر وكاتب وهي مترجمة عن الإنجليزية. كان الاثنان شغوفين بلغتهما الأم، وكان هو يريد أن يجرّب ما اعتبره جديداً: أن يكتب يوميات تجوالهما العسليّ. ليس فقط ليقول فيها إنه شاهد ذلك والتقى ذاك، بل أيضاً ليؤكد من خلالها أمرين مترابطين: عشقه للغته التي أراد بها أن يطل على العالم "وليقرأني فقط من يحب لغتي!" قال؛ ومن ناحية ثانية إيمانه بأن البلدان التي يزورها هي في المقام الأول أوطان لغاتها. ومن هنا، بعد العودة من شهر العسل أصدر في عام 1917 ذلك الكتاب الصغير المدهش، في نصّه كما في عنوانه "يوميات شاعر تزوج حديثاً" الذي ذكّر كثراً بنصّين مشابهين أحدهما لكلوديل، والآخر لأندريه جيد، وربما سيعتبره كثر تمهيداً لقصيدة لوركا الطويلة "شاعر في نيويورك".

احتفال بالعالم

الحقيقة أنه من الصعب الاكتفاء بالقول إن هذا الكتاب ينتمي إلى أدب الرحلات. صحيح أن فيه شيئاً من ذلك، لكن الأهم فيه أنه يبدو تجوالاً بين عوالم كتّاب الآخرين وحيواتهم، والأكثر من هذا: تجوال بين لغات الأدب إنما دائماً من وجهة نظر اللغة الإسبانية التي يطلّ بها الشاعر أو الكاتب على العالم. باختصار، بدلاً عن أن يحتفل الشاعر وامرأته بزواجهما متجولين بين مدينة وأخرى، في أوروبا ولكن بخاصة في العالم الأميركي الجديد، ها هما معاً، ودائماً من طريق اللغة، عشقهما المشترك، يجعلان من شهر عسلهما نوعاً من الاحتفال بالعالم. وأي احتفال.

على طول الصفحات التي لا تزيد في الأصل الإسباني عن مئة وتسعين صفحة، يلتقي الشاعر وعروسه كتّاباً يعرفانهما. كتّاب من المواضي يحضرون لرفقتهما الآن، يواكبونهما في الأزقة والمدن كأشباح آتية من البعيد، من البعيد في الزمان إنما ليس في المكان طبعاً، وهما يقيمان حوارات ثنائية وربما ثلاثية مع تلك "الأشباح" معظمها مرتبط بالمكان الذي يزوره الزوجان أكثر من ارتباطه بالزمان، الذي يبدو هنا منبعثاً من عمق التربة التي كان المضيفون قد دُفنوا فيها منذ أزمان بعيدة. لكنه "ليس حواراً مع موتى"، لا يكف خيمينيز عن تنبيهنا على مدى فصول الكتاب. بل حوار مع تلك الأرواح التي سيقول كوكتو إنها تبقى إلى الأبد حائمة في الأماكن بعد غياب الأجساد، لا سيما في أماكن الولادة وقد استعادت تربتها جسد المبدع مطلقة روحه لتعانق الأسطورة. ومن هنا بقدر ما يبدو الكتاب رحلة شهر عسل، يبدو كذلك تحية للسابقين ودرساً إبداعياً للاحقين. وربما أيضاً تأشيراً إلى لحظات فرح عاشها شاعر كان التجوال والألم من علامات حياته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ذلك الأندلسيّ

ونعرف أن وعي خيمينيز على الحياة والشعر قد تفتّح أواخر القرن التاسع عشر في الأندلس وهو يعانق الطبيعة بشكل جعله لا يطيق الأسر في أي مكان مغلق، حتى ولو كان ذلك المكان الكلية التي يتعين عليه أن يدرس فيها. كان لا يجد نفسه إلا في حلقات المغنين والعازفين، وفي زوايا الطبيعة الخلابة، ومنذ وقت باكر راحت تستبد به رغبة جامحة في أن ينقل كل ما يراه على لوحات: أحسّ أن عليه أن يكون رساماً. وكان ذلك في الوقت نفسه الذي اكتشف فيه الشعر، حين قيّض له أن يعيش على هامش الحياة الثقافية في إشبيلية، حيث درس فن الرسم في محترف لفنان مثقف كان يجمع الشعر والرسم والموسيقى معاً. وهكذا راح الفتى يقرأ باكراً أعمال الشعراء الرومانسيين من إسبان وغير إسبان، فما إنْ بلغ العشرين من عمره حتى كان يحفظ عن ظهر قلب قصائد لهايني وبايرون وأسبرونسيرا ولامارتين.

في تلك الآونة، وعلى الرغم من مزاجه الفني انصرف خيمينيز لدراسة الحقوق. لكن ذلك لم يطل به، فتخلى عن الحقوق لينصرف إلى الفن والأدب. فكان أن وُلد كواحد من أكبر الشعراء الإسبان في القرن العشرين، الشاعر الذي مارس تأثيراً قوياً في تيار بأسره من تيارات الشعر الإسباني، هو الذي كان يحلو له حتى أيامه الأخيرة أن يقول إنه الشاعر الذي ولد من رحم الطبيعة.

في حوالى 1900 قام خيمينيز بأول رحلة إلى العاصمة الإسبانية مدريد، وكان في رحلته يتأبط العديد من القصائد التي كان كتبها في إشبيلية، وسرعان ما استقبلته مدريد استقبالاً جيداً، وراحت مجلة "الحياة الجديدة" الطليعية تنشر قصائده التي بدا صداها على الفور كبيراً لأنها تواكبت مع تلك الحداثة التي كان شاعر نيكاراغوا الكبير روبن داريو قد حملها معه إلى إسبانيا. وفي العام نفسه أصدر خيمينيز مجموعتين شعريتين بتأثير داريو فيه "نيمفياس" ثم "أرواح من بنفسج". بعد نشر هذين المجموعتين توجّه خيمينيز ليعيش بعض الوقت في فرنسا محاولاً الاستشفاء من مرض ألم به، وهو حين عودته عاود الارتباط بالطبيعة التي كانت الحياة في مدريد قد حرمته منها. ولقد كشفت المجموعات التي أصدرها عند ذلك عن تلك العودة ومنها "قوافٍ" (1902) و"مناخات حزينة" (1903)، ثم "حدائق بعيدة" (1904). مع تلك المجموعات كان خيمينيز قد أضحى مَعلماً من معالم الحياة الشعرية في إسبانيا، بخاصة أنه أصدر مجلة سماها "هليوس" ضمت من حولها نخبة الشعراء الطليعيين. لكنه سرعان ما سئم ذلك كله في 1905 وعاد إلى مسقط رأسه في الأندلس حيث بقي حتى العام 1911 ناشراً أشعاراً في منتهى الحزن، كشفت عن مروره بحقبة من المرارة والسودائية. في ذلك العام عاد إلى مدريد من جديد، لكنه هذه المرة عاد وقد أضحى شاعراً "رمزياً روحياً" كما وصف هو نفسه في تلك الفترة، كما عاد وقد أضحى ناشراً طليعياً.

 

 وفي عام 1916 توجه إلى نيويورك حيث تزوج من زنوبيا كامبروبي، زواجاً أثمر لديه "يوميات شاعر تزوج حديثاً" (1917). وخلال تلك السنوات كلها ظل شعر خيمينيز مطبوعاً بسمة ميتافيزيقية قوامها البحث عن الذات وعن حلولية الوجود، وعن الامتلاء بمظاهر الكون وأسراره. وهذه المرة اختتمت لديه في عام 1936 مع مجموعة "أغنية" غير أن الظروف السياسية في ذلك الحين لم تسمح له بأن يواصل تلك المسيرة، إذ سرعان ما أجبره اندلاع الحرب على التوجه إلى الأرجنتين وأوروغواي، ثم عاد إلى واشنطن قبل أن يستقر بعد ذلك بشكل نهائي في بورتوريكو.

نهاية متشرّد

كانت تلك الحقبة حقبة تشرّد كبير إذاً، في حياة خيمينيز، تشرّد ظل مذاقه ماثلاً في شعره الذي راح ينشره بكثرة، كما راح ذلك الشعر يترجم إلى العديد من اللغات، ما كرس خيمينيز في ذلك الحين واحداً من أشهر الشعراء في العالم. ومن هنا حين منح جائزة نوبل للآداب في 1956 وأصبح اسمه على كل شفة ولسان، اعتبر منحه الجائزة تكريماً لذلك المزيج الخلاق بين توأمين لم يفترقا عنده: حب التشرد وحب الكلمة. وحين رحل خيمينيز في عام 1958 عن عمر يناهز السابعة والسبعين في بورتوريكو، اعتبر رحيله خسارة للشعر، كما اعتبر هو نفسه واحداً من قلة من شعراء القرن العشرين حافظت، بحسب تعبير الشاعر رافائيل ألبرتي، على ذلك الخيط الرفيع الذي ما لبث يربط على مدى تاريخ الكتابة بين الشعر والدين، الدين بالمعنى الإيماني الصرف. فالحال إن شعر خيمينيز لم يكن سوى بحث عن المطلق وسوى محاولة للامتزاج الرمزي في الكون وفي الطبيعة، بمعنى أن خيمينيز، الذي كتب آلاف الأبيات الشعرية وأصدر عشرات المجموعات لم يفعل طوال حياته سوى العودة إلى منبع طفولته الأساسي: الطبيعة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة