لم يخطئ الكاتب الجزائري كمال داود، في مقدّمته للترجمة الفرنسية التي وضعها الباحث جان باتيست برونيه لكتاب الفيلسوف ابن طفيل (1110 ــ 1185)، "حيّ بن يقظان"، بقوله أن هذه الرواية الفلسفية تعاني من مرض "الأسبقية". فهذا العمل الفذّ الذي ترك أثراً كبيراً على الأدب والفلسفة شرقاً وغرباً في القرون الماضية، وقع اليوم في طيّ النسيان وبات، حين يتم استحضاره، "مجرّد نصّ أوّلي أو مسودّة تُنبئ بسردية أخرى لاحقة" هي رواية الإنكليزي دانييل ديفو، "روبنسون كروزو". ولعل هذا تحديداً ما حثّ برونيه على نقله إلى الفرنسية بتصرّفٍ كبير، وإلى منح ترجمته، التي صدرت حديثاً عن دار "فيردييه" الباريسية، عنوان "روبنسون الغرناطي".
في هذه الترجمة الأسِرة، يقدّم برونيه النصّ الأصلي لهذه الرواية بأمانة وعلمٍ لافتين. لكنه يبتعد طوعاً عن حرفيّته بهدف محاولة إيصاله سمعياً إلى آذاننا. وفي هذا السياق، لا يتردّد في قلب ترتيبه وتوازنه الأصليين عبر تعزيز حدّة بعض مقاطعه أو كلماته وإهمال مقاطع أو كلمات أخرى فيه، وعبر منح الكلام لشخصيته الرئيسية التي تتقدّم تحت أنظارنا، كما لو أنها على خشبة مسرح، للإفصاح عن تجربتها، تارةً بصيغة الحاضر، وتارةً بصيغة الماضي. وهذا من دون شك ما يفسّر خياره نقل هذا النص إلى لغة موليير على شكل جمل مدودة بإيقاعِ قراءةٍ أو إلقاءٍ.
ولمن لم يقرأ هذه الرواية بعد، نشير إلى أن ابن طفيل كتبها على شكل رسالة وأدّى فيها دور الراوي، مفسّراً في مدخلها ما قاده إلى كتابتها، أي رغبته في تلبية طلب صديق رجاه أن يكشف له الأسرار التي يتضمّنها كتاب ابن سينا "الحكمة الشرقية" الذي من المفترض أنه يعرّي حقيقة كل شيء. وبالتالي، "رسالة" ابن طفيل مرصودة إلى هذا الهدف، أي كشف أسرار المعرفة التي يتوجّب على المهتم بالحقيقة أن يتملّكها. لكن بما أن كشف كل شيء كتابةً غير كافٍ، بالنسبة إلى الفيلسوف، لأن على متلقّي رسالته أن يقوم بجهد الفهم بنفسه، وأيضاً لأن البشر في طبيعتهم مختلفين ذهنياً، وغالبيتهم عاجزة عن بلوغ الحقيقي في كل صفائه؛ اختار ابن طفيل منح رسالته شكل حكاية بطلُها ــ حيّ بن يقظان ــ رجلٌ ترعرع وحيداً في جزيرة مهجورة واكتشف بعقله وحدسه فقط حقيقة الكون.
رمز الغزالة
عن ظروف ولادة حيّ، نجهل كل شيء. ما نعرفه هو أن غزالة أرضعته واضطلعت بمهمة تربيته بين حيوانات الجزيرة. ولأنه حادّ الذكاء، لا يلبث أن يكتشف الأشياء بواسطة المساءلة والاختبار، وخطوة خطوة، من دون كلمات أو كتاب أو معلِّم أو كشْف، يتقدّم في المعرفة حتى يبلغ قمّة الميتافيزيقا والكمال الفكري. وبفضل حدسه بـ "الكائن الضروري"، خالق كل شيء، واختباره إياه، يكتشف حقيقة الكون بشكلٍ مطلَق، فنراه في سن الخمسين وحيداً، لا يجيد الكلام أو القراءة، لكنه بلغ معرفة كلّية، وأبصر كل شيء.
وفي أحد الأيام، يحضر إلى جزيرته رجلٌ يدعى أبسال، قدم من جزيرة قريبة يتّبع سكانها ديانة توحيدية غير مسمّاة. ومع أن هذا الرجل كان يؤمن بهذه الديانة ويحترم طقوسها، لكن طبيعته التأمّلية كانت تحثّه على محاولة تفسير الرموز التي كان يبصرها. وبينما يتعلّم حيّ الكلام معه ويقرّ بحقيقة هذه الديانة إثر وصف صديقه له ماهيّتها وتعاليمها، يدرك أبسال أن معتقداته ليست سوى استعارة للحقيقة التي أبصرها حيّ من تلقاء ذاته، فيقنعه بضرورة الذهاب إلى جزيرته لتعليم سكانها طريقته هذه. لكن مشروعهما يفشل لأنه يتعذّر على الأشخاص الذين توجّه حيّ إليهم تقبّل تعليمه واستيعاب معناه، فيعتذر منهم ويوصيهم بالبقاء على طقوس ديانتهم، ويعود مع أبسال إلى جزيرته حيث يستسلمان معاً للتأمّل "حتى اليقين".
باختصار، رواية سهلة وصعبة في الوقت نفسه. سهلة لأن ابن طفيل يروي فيها قصة مشوّقة حول مسيرة رجل فريد من نوعه ومغامرات حياته، متوقّفاً عند اكتشافاته وتأمّلاته المنيرة، عند سيرورة تطوّره وانفتاح ذهنه على اللامتناهي، وبالتالي عند نشاط فكرٍ بشري خصب، من دون قيود، وكل ذلك على جزيرة استيهامية. وصعبة لأن خلف قصتها "ثمة نظرية، وهذه النظرية محجّبة، باطنية"، يقول لنا برونيه. وفعلاً، تكشف رواية ابن طفيل لقارئها سرّاً، وعلماً مخفياً يقوم على "معرفة البارئ"، لكنه كشفٌ رمزي، ملتبس. لأن الكاتب سعى داخلها إلى توفيقية فلسفية تتجلى خصوصاً في مدخلها الذي عرض فيه مكامن قوة أو ضعف فكر فلاسفة كبار مختلفين، كابن سينا وأرسطو والفارابي وابن باجة وخصوصاً الغزالي الذي تشكّل رواية "حيّ بن يقظان" ردّاً على كتابه "عجز الفلاسفة".
وهذا ما يقودنا إلى ميزة فكر ابن طفيل في هذا العمل، أي توقه إلى ربط العقلانية والتصوّف، وإظهار أن طريقة الفلاسفة لبلوغ الحقيقة لا تختلف أو تتضارب مع طريقة المتصوّفين، بل تتطوّع لها، تدعوها وتلتمسها كإكمالٍ لها. وهذا المزيج من التأثيرات والمراجع هو ما يمدّ نص روايته بكل تعقيده ويصعّب مهمة تحديد موضوعه. فهل الأمر يتعلق باختبار الفكر وقوّته؟ بالاتحاد بالبائن الصافي؟ بسموّ الطريقة الصوفية؟ بأحاديّة الكائن؟ بالحلولية؟ بتناغم الفلسفة والدين؟ بمحاولة تعميم المعرفة وتقاسم الحدس؟ بتشاؤمٍ أنثروبولوجي وسياسي؟ بقليلٍ من كل ذلك، يقول لنا المترجِم، وهو تحديداً ما يجعل كل واحد من قرّاء هذه الرواية يعثر على مبتغاه ونفسه فيها، وما يمنح بالنتيجة نصّها كل قيمته.