بهروز قمري، الأستاذ في دراسات الشرق الأدنى ومدير الدراسات حول إيران والخليج، في جامعة برنستون، وهو من أصول إيرانية، يختار أن يصف الواقع السياسي في وطنه الأم، بعد الثورة الإيرانية التي أطاحت الشاه عام 1979، وأحلّت مكانه الزعيم الديني الخميني الذي كان لا يزال منفياً في باريس. الرواية المترجمة إلى العربية (من الإنجليزية) والصادرة عن دار الساقي (2020) بعنوان "قافلة الإعدام - مذكرات سجين في طهران"، تعيد إحياء مأساة طاولت المئات، بل الآلاف من المعارضين لنظام الشاه، ولا سيّما من اليسار بمختلف تلاوينه، والذين صدرت في حقهم أحكام بالإعدام، ونُفّذت فيهم بأوامر صادرة عن أسد الله لاجوردي، أحد المتطرّفين في الثورة الإيرانية، والمعارضين الأشدّاء لسياسة آية الله حسين علي منتظري المعتدلة نسبياً.
تجارب إنسانية
الرواية التي ترجمتها ريم الطويل، لا تنطوي على خطاب سياسي ظاهر، شأن الرواية المعاصرة في أوائل القرن الحادي والعشرين، وإنما كانت معرضاً لتجارب إنسانية مؤثّرة في صدقيّتها وصدقها، عاشتها مجموعة من الإيرانيين، يساريين وخارجين عن القانون، بعرف أسد الله لاجوردي وسلطة الحرس الثوري التي شنّت حملة اعتقالات في صفوف المعارضة اليسارية السابقة إثر تعرّض بعض قادتها لعمليات اغتيال. وقد وضع هؤلاء المعتقلون في سجن إيفين الشهير المثقل بأعمال التنكيل التي كانت ترتكب بحق كل المعارضين لنظام الشاه من كلّ أطياف المعارضة. وراح الروائي يتلبّس كلّ شخصية من المحكومين، وينقل بلسانه أهمّ الأحداث التي سبقت اعتقاله وسجنه، وضمّه إلى فئة المحكومين بالإعدام، واصفاً ذاته والآخر المقيم إلى جواره، في السجن، وسارداً، على لسان راو آخر جديد، خبر إعدامه أو موته.
إذاً، تعرض الرواية لسلسلة طويلة من حكايات رجال محكومين بالإعدام، لجرم سياسي أو أخلاقي، من دون أن يتوانى، الكاتب بهروز قمري عن ابتكار الأجواء النقيضة، أو المعاكسة تماماً لرهاب الموت الأكيد، وضغط الأحكام القاتل للحواس والكرامة قبل القتل المادي، من خلال بثّ روح التخيّل واللعب وابتكارعوالم، واستحضار أنواع من الموسيقى (الكلاسيكية)، فيختار سيمفونية ماهلر الأولى لما تحدثه آلة الكلارينت من شعور بالحياة المتدفقة في السامع. طبعاً، لا تنطوي رواية "قافلة الإعدام" على مزاوجة ذكية بين الشعور الضاغط بالموت واستحضار مشاعر الحياة المستفادة من الموسيقى الكلاسيكية فحسب، وإنما يتّبع فيها الروائي ما بات يُدعى لدى علماء القراءة بإستراتيجية لفت الانتباه عبر العناوين غير المتوقّعة؛ ففي حين يتوقّع القارئ أن يتصدّر كلّ مشهد من المشاهد السبعة والعشرين اسم علَم لكل من هؤلاء السجناء في إيفين، والمزمع تنفيذ حكم الإعدام فيهم، يقع نظره على أربعة وعشرين عنواناً منها: هذا أيضاً سيمرّ، ما العمل؟، نظرية التطبيق، المنزل الآمن، فرهاد، الأشياء تتفكك، رحلة إلى شالوس، المحاكمة، عيد ميلاد السيد أمين صالحي الخمسون، الاعتراف، سيمفونية ماهلر، التروتسكي، السمّ، في حبّ التّرمس، بهرام، الثوم المخلّل، الشاعر، وغيرها من العناوين، طبعاً من دون العناوين الأربعة التي اختار الروائي أن تكون لأسماء المحكومين. فبعد أن يستهلّ الروائي عمله الأدبي "بالمقدّمة" (ص:9-13)، في مناورة أسلوبية توحي بأنّ الكتاب إن هو إلاّ بحث علميّ، يؤطّر فيها الأحداث التي ينوي سردها لاحقاً بين العام 1979 و1984، صباح 31 يناير (كانون الثاني)، يوم خروج الراوي من السجن، ناجياً من المقتلة بفعل مرضه بالسرطان، ووشك موته فيه، ويصف فيها انقلاب الثورة الإيرانية على أبنائها، بعيد الانتصار على الشاه: "باتت الأصوات الصّاخبة التي دعت في انسجام إلى إنهاء الملَكية تعلو اليومَ متنافرة. ادّعى كلّ من الشيوعيين، والاشتراكيين، والتحرّريين، والقوميين، والنّساء، والعمّال، وطلاّب الجامعات، والأقلّيات الدينية والإثنية، وأيضاً موظّفي الثورة والشّباب، ورجال الدّين الشديدي الحذَر، بثقة مطلقة، أنّهم يحملون المعنى الحقيقي للثورة ..." (ص:10)
معاناة ما قبل الإعدام
وبالعودة إلى هذه العناوين فهي استخلاص بالغ الإيجاز لحكاية محكوم بالإعدام، لنزواته الأخيرة، ولمشاعره وآلامه التي سبقت تنفيذ الإعدام فيه. ولربما كانت سرداً لحبكة تخلّص الشخصية من الإعدام الذي سيق إليه حالما يبلغ المحققين خبر انتحار أخته الملاحقة بتهمة الانتماء إلى جماعة الشيوعيين المتطرفين. وفي الحكاية الثانية، على التوالي، يبرز الروائي شخصية "أكبر" التي تتولّى سرد النهاية المأساوية لكلّ من الشخصيات التي تتسع لها الرواية؛ مثل الخال حسين الإسكافيّ الحرفيّ والسكّير الباحث عن الكحول، وقبله نصرالله المؤمن والناجي بنفسه من دون أخته الشيوعية. وفي المشاهد التالية أيضاً ("هذا أيضاً سيمرّ"، و"ما العمل؟"، و"نظرية التطبيق") عودة الراوي إلى لملمة أهمّ لحظات سيرته وهو فتى وشاب في سنواته الجامعية الأولى، وسعيه المحموم إلى قراءة كتابات لينين (ما العمل؟) التي كانت لا تزال محظورة ويعاقب الشيوعيون بسببها أشدّ العقاب، وكيف أنه (الراوي نفسه) كاد يضحّي بنجاحه في الموادّ الرئيسية التي تخوّله التخرّج مهندساً في النسيج، بسبب انشغاله المفرط بقراءة كتاب "ما العمل؟" ودأبه على فهم مقولاته والعمل على تطبيقها. ولا يلبث الروائي أن يعود إلى سرد حكايات نزلاء سجن إيفين، ومنهم فرهاد الكردي الذي كان يقول دوماً "يجب أن يبقى الإنسان إيجابياً" (ص:88) على الرغم من صدور القرار بإعدامه. وتلك أيضاً حكاية "أرجنغ" اليساري الثوريّ والماويّ فكراً وعقيدة ونقاشاً حاداً في داخل الزنزانة، والذي يموت بدوره تحت التعذيب. ومن ثمّ يعود الروائي إلى الراوي "أكبر" فيستأنف معه سرد اللحظات التي سبقت اعتقاله والتحقيق معه بتهمة التعامل مع "حفنة من معارضي الثورة" (ص:112)، ثم يعرض لمحاكمته في بناء "كوميته مشترك" أمام القاضي، فيردّ عنه تهمة الإطاحة بالحكم الثوري بالقول إنه كان إلى جانب المظلومين يدافع عنهم، إلا أنه أبدى ندماً على عدم امتلاكه "رؤية واضحة لكيفية خوضه هذا النضال". وهكذا إلى أن يحين وقت اللعب، وإنفاذ التخييل لملء شغور السجن والتخفيف من وطأته؛ إذ يعمد الراوي أو غيره إلى تولّي التسرية عن السجناء بأن يدفعهم إلى تخيّل سيمفونية ماهلر الأولى "(ص:169-179) بأن يصفّر "المقطع الذي يؤدّيه الناي من الحركة الثالثة من سيمفونية ماهلر الأولى"، ثمّ يدفع السامعين إلى تخيّل أدوار الكلارينت فيها، والتداول في ما تثيره الحركات المتناوبة بين الناي والكلارينت من إيحاءات بانبعاث الحياة من رميم العدم، وما تستدعيه الأخيرة من شعر يناسب هذه اللحظات، من مثل قصيدة الشاعر أحمد شاملو بعنوان "لحظة الإعدام":
"دارَ المفتاحُ في القفل.
ارتجفتِ الابتسامةُ على شفتيه،
مثل أمواج مائية ترقصُ على السّقف،
انعكاساً لأشعّة الشّمس".
وعلى هذا النحو، من الترجّح بين السّرد العادي لوقائع الحياة داخل السجن، والحبكة المزاجية التي يتحدّى بها مسار القدَر المحتوم، تتوالى مشاهد المحكومين، واحداً بعد آخر، حتى لحظة الإعدام نهاية الإطلالة وإسدال الستارة على حياة أصغر وداوود ومنصور وصلاح وغيرهم، مع توشيح هذا الحكي ببعض الكلام على موسيقى بيتهوفن والرومنطيقية في الفن والشعر الإيراني الحديث والتعليقات المتباينة حول كل هذا. قد لا تبدو هذه الرواية، على الرغم من خطاباتها الإيديولوجية المخبوءة في طوايا الشخصيات المحكومة والحاكمة على السواء والمتناقضة في توجهاتها (صراع منتظري مع أسد الله لاجوردي، على سبيل المثال)، شاملة في عرضها حيثيات الصراع الذي آل بهذه الشخصيات إلى الإعدام، إنّما حسبُها أنها سلّطت الضوء على تجارب إنسانية، في مواجهة مصيرها المحتوم، ولم تأنف عن مواكبة حيوات في مسارها الأخير إلى الموت، وجعلت تشنّف آذانهم بخير ما في الفنون، الموسيقى والشعر.