ليست "حديقة الأمس" التي تحضر في ديوان الشاعر اللبناني بول شاوول الذي يحملها عنواناً (دار النهضة العربية، 2019) حديقة رمزية أو متخيلة على غرار حدائق الشعراء والرسامين، بل هي حديقة "حقيقية"، ولأقل حديقته نفسها التي زرعها وسقى أشجارها ونباتها وسهر عليها، حديقة "المنفى العالي" كما يسميها أيضاً، في دلالة واضحة على أنها حديقة السطح، المجاورة لمنزله الذي يحتل الطابق الأخير من المبنى الذي يقطنه.
ومن يعرف بول شاوول يعرف حديقته التي كانت جزءاً من بيته ومن حياته اليومية، النهارية والليلية. وأغرب ما في هذه الحديقة أنها كانت معزولة عن الطبيعة، وعن الحقول والسواقي، فهي تقطن أرض السطح التي فرش شاوول إسمنتها الصلب بالتراب، وكأنها حديقة موقتة وعابرة و "منفية".
إنها الحديقة التي كما يصفها الشاعر "بلا أبواب ولكن بنوافذ كثيرة"، بل هي الحديقة التي دخلها الشاعر "بلا أبواب وخرج منها بأبواب لا تحصى". إنها الأبواب المتخيلة التي تنتهي إلى حديقة ذات نوافذ متخيلة، نظراً إلى كونها حديقة حقيقية و "ميتافيزيقية" في آن واحد، حديقة الحضور والغياب، حديقة الطبيعة والكينونة.
حتى الشاعر نفسه يمسي في حضرتها "رجلاً ليريكياً"، كما يسمي نفسه تيمناً بسيد الشعراء في الميتولوجيا الإغريقية، أورفيوس، لكنه لا يسعى هنا إلى ممارسة سحره على الآلهة لتسمح له باستعادة حبيبته من الجحيم، بل يكتفي بأن يمارس "الغناء" وحيداً في فردوس يعلم جيداً أنه فردوس مفقود لم يبق منه سوى الحنين إليه. فالحديقة لا سيما في الليل "ذكرى حديقة"، بل هي "الذكرى التي تتنكر بذكرى أخرى"، والموتى هم زوارها الليليون، يؤمونها "بلا موعد ولا إذن"، ثم يرحلون رحيلاً يزداد لكونه ليس رحيلاً، لكونه إقامة، في حركة الفصول التي تحلّ وترحل، باستمرار.
ولئن كانت الحديقة تموت ثم تنهض فهي لا تفسّر هذا الموت ولا هذا "الوقوف" في قلب الزمن هي "الواقفة في ترحالها والراحلة في وقوفها". ولكن في هذه الحديقة التي هي دوماً على شفا الوجود، يلتقي الأحياء والموتى كل ليلة، يمكثون كما يقول الشاعر حتى الفجر، "يلقون تذكاراتهم عليها ويرحلون". يقترح الشاعر هنا ما يمكن تسميته "الشاعرية الظلّية"، جاعلاً من الحديقة مكاناً يتم فيه اللقاء بين موتى لم يموتوا تماماً وأحياء يعيشون حضورهم وكأنهم ظلال أنفسهم أو العكس، فالحال "الطيفية" توحّدهم وتفصل بينهم في آن واحد. إنهم "الوجوه" أيضاً، التي تمرّ في الحديقة "على مرأى الهواء ثم تنقطع ببطء"، كما يكتب الشاعر.
تحضر الحديقة في الديوان حضوراً طبيعياً أو "حسياً"، وحضوراً ميتافيزيقياً وصوفياً. الحواس حاضرة هنا بشدة حتى ليشعر القارئ بأنه يرى ويشمّ ويلمس ويذوق، تماماً مثل هذا "الرجل الليركي" الحاضر بحواسه المتفتحة وحدسه اليقظ وذاته المنتشية وغيبوبته. فالبنفسجة التي في الحديقة هي حقاً بنفسجة في نظر الشاعر، لكنها "تحمل صفرتها على نزق"، الفلة تتماسك قليلاً على شجرتها "ثم تنفصل"، الغاردينيا البيضاء "ترمق بعين خضراء"، الياسمينة "لا تقيس مسافة سقوطها في الليل"، الأقحوانة "باردة كمطر الفجر"، النعناع ينهض "بعبقه الثرثار"، السروة "تطفئ ذكرياتها بلون قاس"، الصنوبرة "تفتح جذعها على العدم بهيبة"، الزنزلختة "ضربتها الدهشة"... إنها الحديقة في كل عناصرها وألوانها وطيورها وحيواناتها الأليفة وسمائها وغيومها ونجومها وشمسها وليلها... ولئن يحضر الدوري في هذه الحديقة متنقلاً "بلا هاجس"، والبزاقة التي "تنام في الوردة كخاتم"، والنملة التي "تنمل سيقان النبتات" فالفراشة تحتل حيزاً في الحديقة كما في مخيلة الشاعر ووجدانه. الفراشة التي تحمل ما لا يحصى من رموز وأبعاد تحلّ هنا وكأنها الملاك الحارس بخفّتها وجمالها. فهي كما يقول الشاعر "ترتّب الحديقة كل صباح" ثم تغادرها وكأنها "تتسلل إلى الهواء خلسة". إنها الفراشة اللامتوقعة دائماً، تخطف الأنظار بسحرها وشفافيتها، "تمزج الهواء والألوان" وكأنها فرشاة في يد رسام خفيّ، تطير "كسرب من القبل"... وإذا تمنّت أن تصير وردة فهي "تصير وتنسى".
يؤنسن الشاعر الحديقة ويمنحها مواصفات الحياة والموت وما يتخللهما من أحوال، فإذا بها تصدر "أنّات متقطعة"، تضطرب وتهدأ، وقد تخلع عنها ملابسها لتتعرى "كل عريها". يؤنسنها الشاعر ويمنحها الحياة وينقل إيقاع حركتها وإيقاع هدوئها أو سكونها، إيقاع فصولها وأيامها العابرة، إيقاع نومها ويقظتها.
يؤنسن عناصرها كلها، الشجر والنبات والأزهار والورود وحتى الحيوانات الأليفة. لقد أصبحت الحديقة وجوداً بذاته، تتبادل عناصرها علاقات مرئية حيناً وخفية حيناً: "الوردة المتناثرة تجرح الهواء بأنّات صامتة". بل إن الشاعر نفسه أو الرجل الليريكي "يتراسل" في المعنى الحلولي – الطبيعي (بانتييسم) مع الورق والنبات كأن يقول: "كلما لامست ورقة من أوراق الحديقة ازدادت الخضرة صفرة على أطراف أناملك". يصبح جسد الشاعر جسد الطبيعة ويحل الواحد في الآخر: "بياض تخاف أن تخدشه عيناك". ولعل هذا التراسل "الحلولي- الطبيعي (وليس الصوفي – الديني) يتوازى مع ما يسمى "تراسل الحواس" داخل اللغة الشعرية الذي دفع الشاعر الفرنسي بول إليوار إلى كتابة جملته الشهيرة: "الأرض زرقاء مثل برتقالة". أما بول شاوول فيمضي في هذه اللعبة محرراً الحواس من مواصفاتها الطبيعية فـ "يخلخلها" في المفهوم "الرامبوي" (رامبو الشاعر الفرنسي) حتى لتصبح الحديقة "صمتاً تراه" كما يقول، أو "تلك الروائح الفائضة من النبات/ تراها كما ترى عصفوراً/ فائضاً على شجرة"... حتى الروائح هذه تمسي ذات "لون واحد" بل إن اللون الأصفر "واضح كهديل اليمام".
هكذا تمارس اللغة الشعرية حالاً من "التواطؤ" هنا وتصبح بمثابة الشاشة التي تتجلى الألوان والروائح والنظرات ملء بياضها. تدخل اللغة عمق التجربة لتصبح هي مادتها الحسية واللونية والأثيرية، بل لتصبح جوهرها متخطية حال "الشهود" إلى حال وجودية. لكن الشاعر الذي رسّخ قصيدة البياض في دواوين سابقة ("وجه يسقط ولا يصل") يواصل هنا هذه "اللعبة" الخطرة مشرعاً أياها على بعد مشهدي صاعد من قلب النثر الذي يمارس حضوره بقوة إزاء اللحظات المصفاة. وليس بمستغرب أن تتحوّل بعض المقاطع إلى مشاهد تبصرها عين القارئ بوضوحها وغموضها في آن واحد.