من المعروف أن معظم اللوحات التي رسمها الإيطالي التوسكاني أميديو مودلياني، خلال حياته القصيرة لم تكن سوى بورتريهات لأشخاص يعرفهم ومعظمهم بتنا نعرفه من خلاله، ولسنا ندري بالطبع ما إذا كان سيغير أسلوبه لو أنه عاش أكثر، ثم لو أنه بلغ من الشهرة في حياته ولو جزءاً ضئيلاً مما بلغه بعد موته شاباً. المهم هو أن موهبة ذلك الرسام الإيطالي تجلّت في تلك البورتريهات اللافتة التي تنتمي جميعها إلى مزاج واحد يكاد يكون مزيجاً من تكعيبية ضارية ومن استخدام للوجوه كأنها أقنعة أفريقية. ولعل اللافت هنا هو أن الكثير من تلك الوجوه يبدو شديد الشبه بوجوه كثيرة رسمها بيكاسو من قبل مودلياني ومن بعده، علماً بأن وجوهاً كثيرة في لوحات بيكاسو تبدو بدورها وكأنها أقنعة أفريقية. غير أن هذا ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو هذه اللوحة التي تبدو وكأنها تغرد عن قصد خارج السياق العام لفن مودلياني، وعلى الأقل في كونها لا تشكل بورتريهاً يمثل شخصين معروفين ناهيك عن كونها بورتريهاً مزدوجة تكمن استثنائيتها أيضاً في أن الرسام عمد فيها لمرة نادرة أن يضاعف عدد شخصيات لوحته هو الذي اعتادت تلك اللوحات أن تقدّم شخصاً واحداً مرسوماً، وغالباً إمرأة. تُعرف هذه اللوحة الاستثنائية في مسار مودلياني الفني بعنوان "الخطيبان" لكنها تُعرف كذلك بعنوان يبدو، حتى أكثر سخرية وهو "الزوجان" وهي صغيرة الحجم (55 سم ارتفاعاً و46.4 عرضاً)، وهي معلقة منذ زمن في متحف الفن الحديث (الموما) بنيويورك هدية من مالكها الأصلي فردريك كلاي بارتلت.
نكهة اجتماعية مقحمة
ولكن لماذا ترانا نصف عنوانها "الزوجان" بأنه ساخر؟ ببساطة لأن ليس ثمة على الإطلاق أمامنا ما يفيدنا أننا هنا حقاً أمام بورتريه مزدوجة لزوجين حقيقين. بل أن جان كوكتو الذي بدا دائماً مولعاً بفن مودلياني وكتب عنه دراسات متفرقة، يؤكد لنا أن الشخصين المرسومين في اللوحة لم يكونا من معارف مودلياني وهما لم يقفا موديلاً له ليرسمهما كما قد توحي اللوحة. بل هما بحسب ما يقول كوكتو، "مجرد ثنائي التقاهما الرسام يتمشيان في الجادات الكبرى الباريسية فلفتا نظره بشكل مدهش ولم يبرحا خياله حتى انتهى به الأمر إلى رسمهما من الذاكرة بعد حين". ولكن لم لفت هذان الشخصان نظر الرسام إلى هذا الحد وجعلاه يرسمهما من دون إذنهما ومن دون أن يتعرف إليهما، فأمر لا بد من تحرّيه في اللوحة نفسها طالما أن لا مودلياني ولا كوكتو زودانا بما يكفي من العناصر للوصول إلى جواب.
فمن الواضح أن مودلياني أراد أن يعبر هنا ليس عن انسجام بين حبيبين بل عن ارتباط من النوع الذي يقيمه الأثرياء الجدد عادة. فمن فارق السن بين "الزوجين" ومن الابتذال في زينة المرأة وصولاً إلى نظرة الرجل المليئة بالتحدي مروراً بثيابه المفرطة في تأنقها أكثر مما تستدعي نزهة باريسية، وكذلك بالتفاوت في موقع كل من المرأة والرجل في اللوحة ما لا يؤشر إلى تفاوت في حجميهما بقدر ما يؤشر إلى تفاوت في المكانة بينهما... كل هذه عناصر تنتمي إلى نوع من النقد الاجتماعي كان سائداً في ذلك الحين في لوحات الرسامين الألمانيين أوتو ديكس، لا سيما جورج غروس التي كان مودلياني يعرفها جيداً ويدرك أبعادها الأيديولوجية والاجتماعية. كل هذا وفر للرسام، كما يبدو، أو على الأقل كما يوحي لنا جان كوكتو، فرصة نادرة لممارسة نوع من نظرة اجتماعية قاسية وصارمة يلقيها على مجتمع تتحول فيه العلاقات بين رجل عجوز وصبية في مقتبل العمر إلى علاقة سلعية يسيطر فيها القوي بثروته "المكتسبة" حديثاً على الضعيف المضطر إلى المتاجرة بالشيء الوحيد الذي يقدمه مقابل الراحة المادية. والحقيقة أن هذا التفسير يحمل قدراً معيناً من صدقية للوحة تبدو استثنائية في مسار الرسام المهني وتعطيه بعداً ما كان يمكن توقّعه.
حياة تعبق بالألم
كان آميديو مودلياني في السادسة والثلاثين من عمره، فقط، حين أسلم الروح في عام 1920 أي بعد أربع سنوات من إنجازه هذه اللوحة. ولقد أتى موته آنذاك ليضع حداً لحياة كانت في معظمها حياة عذاب ووحدة وألم بشكل من المستحيل على فن مودلياني أن يعكسه على أي حال.
ففي أيامنا هذه، يعتبر مودلياني من كبار الفنانين، وتقام العروض لأعماله، ويقدر ثمن لوحاته او تماثيله بمئات الألوف من الدولارات. ومع هذا فإن هذا الفنان الذي تأثر في بداياته بعصر النهضة الإيطالي، وكاد يتابع كلاسيكية واضحة لولا انتقاله إلى باريس، ظل يرسم في حلقة مغلقة حتى أيامه الاخيرة، بل إن مواضيع لوحاته نفسها - ناهيك بتماثيله التي لم يزد عددها على 25 قطعة - كانت مواضيع جوانية: صور أصدقاء، ومعارف، من رسامين وكتاب وشعراء ولولا لوحات النساء العاريات (30 لوحة) التي رسمها بين العامين 1916 و1919، ولولا المناظر الطبيعية الأربعة التي رسمها في عام 1919، لظل فنه فناً خاصاً وفن «بورتريه» تحديداً.
أما هو نفسه فإنه لم يعرف شكلياً، إلا بفضل «بورتريه» رسمها لنفسه في عام 1919، أي قبل موته بعام واحد، ويبدو فيها رجلاً نحيلاً أسقمه المرض وأسأمته الحياة. مهما يكن، فإن «بورتريهات» مودلياني كلها تمثل أشخاصاً نحيلين، لأن الامتداد طولاً هو الأسلوب الذي اختاره لشخصياته وللتعبير عنها. وهو أسلوب استقاه كما نعرف من فن النحت الأفريقي الذي آمن به كثيراً، منذ كشف له النحات الروماني برانكوزي أسراره يوم تعرف عليه وتأثر به مودلياني. ولقد وصل هذا الأخير في ذلك إلى حد وضع دراسة كانت الأولى من نوعها في فن النحت الأفريقي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مفاجأة من سيزان
ولد أميديو مودلياني في ليفورنو بإيطاليا عام 1884. وهو منذ صباه الباكر عرف الأمراض التي تراكمت عليه ولم يبارحه ظلها بعد ذلك ابداً، لا سيما الرمد والتيفوئيد. ولقد أجبرته الأمراض على الامتناع عن نيل أي تربية مدرسية اعتيادية. من هنا، بعد إقامة لفترة في فلورنسا، قر رأيه على التوجه نحو الفن، ففعل وتوجه إلى البندقية حيث التحق بأكاديمية لدراسة الفنون ظل فيها حتى عام 1906. وهناك كان تعمقه في دراسة فنون عصر النهضة، رسماً ونحتاً، وبدأ يرسم لوحات أولى متأثرة بتلك الفنون. ولكن عند تخرجه من الأكاديمية كان لا بد له من أن يحذو حذو أجيال بأسرها من الفنانين في ذلك الزمن، فاتجه ليعيش في باريس. وهناك كانت مفاجأته الكبرى حين اكتشف أعمال بول سيزان التي طغت عليه ولم يعد يهمه إلا أن يحاكيها، أو على الأقل أن يوجد طريقة تمزج بين فنون وألوان عصر النهضة، وبين تجديدات سيزان. وفي الوقت نفسه ارتبط مودلياني بشعراء ورسامين من أمثال جان كوكتو وأندريه سالمون وماكس جاكوب وبابلو بيكاسو. وفي عام 1908 عرض ست لوحات في «صالون المستقلين» كانت بداية إطلالته الحقيقية على عالم الفن. وفي المرحلة التالية كان اكتشافه للنحت الأفريقي، فترك الرسم بعض الوقت ليحقق منحوتات أراد منها أن تكون نقيضة لفن رودان، الذي كان صاحب الحول والطول في فن النحت في ذلك الحين. بعد ذلك حين عاد مودلياني إلى الرسم وتخلى عن النحت، ظلت لشخوص لوحاته أشكال المنحوتات المستطيلة صعوداَ. حين اندلعت الحرب العالمية الأولى ازدادت آلام مودلياني وازداد بؤسه، خصوصاَ أن معظم أصدقائه ذهبوا إلى الجبهة ومات بعضهم هناك. وبعد الحرب واصل مسيرته وإن كان هذه المرة قد حاول الخروج عن أسلوبه ليرسم لوحات لنساء عاريات سرعان ما دخلت الشرطة المكان الذي عرضت فيه لتصادرها. لكن مودلياني لم يأبه لذلك، ففي الوقت نفسه بدأ رحلة انحداره نحو الموت، تلك الرحلة التي لم تمنعه من أن يعيش حكاية حب أخيرة مع تلك التي سوف تنتحر إثر موته.