أغلب النظريات الاقتصادية الحديثة تعود جذورها إلى طروحات القرن التاسع عشر والعشرين. اقتصاديو ذلك العصر وضعوا الأسس النظرية التي قامت عليها حركات اقتصادية وسياسية كبرى ما زالت تحكم عالمنا حتى اليوم. ومن أهم تلك الأسس النظرية أن كل ما هو ثمين، مهما غلا ثمنه، تتحكم فيه عوامل العرض والطلب. أسعار الذهب تتذبذب وكذلك عقارات نيويورك ولوحات بيكاسو وأدوية الفحولة. ولكن البضائع الفاخرة لا تتأثر بذلك غالباً. إلا أنه لو قدِّر لأحد هؤلاء المؤسسين أن يعود إلى الحياة مرة أخرى، لتفكر وتأمل واحتار كثيراً في ظاهرة الماركات الفاخرة. وبالتحديد سيكون السؤال الذي يحفر رأسه: كيف تمكنت الشركات في هذا الزمن العجيب من بيع حقيبة جلدية نسائية بعشرة أضعاف تكلفة إنتاجها؟ وكيف استطاعت فعل ذلك على نطاق عالميّ واسع؟ وكيف أقبل الزبائن على شرائها طوعاً لا كرهاً، وبكل رضا وسعادة؟ وكيف لم تتدخل عوامل المنافسة لزيادة العرض لتخفيض السعر؟
في زمن الاقتصاديين الأوائل، كانت نظريات الاقتصاد تقوم على أساس المنطق العام للسوق. المنطق الذي ظل يحكم الأسواق منذ أن قام أول إنسان بمقايضة أول سلعة مع إنسان آخر، قبل مئات الآلاف من السنين. وظل هذا المنطق العام قائماً وحاكماً بأمره في كل سوق ومع كل قافلة وفي كل دولة. وهو المنطق الذي اتفق عليه الناس مع اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم، وهو الفضاء المشترك الذي أتاح للناس أن يتاجروا ما بين أقصى الصين شرقاً إلى أقصى أوروبا غرباً في العالم القديم. حتى جاء القرن العشرين، والثورة الصناعية، والإعلام، والرفاه، ليمنح مناخاً وبيئة مواتية لولادة عالم جديد يحمل في تركيبه جينات الاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم اجتماعية أخرى اسمه: التسويق.
لنعد إلى الاقتصاديِّ التقليدي العريق الذي ما زال سؤاله معلقاً أعلاه وأسئلة أخرى شبيهة. كيف يمكنك بيع حذاء لا يحتوي على ذهب بقيمة تتجاوز قيمة وزنه ذهباً؟ كيف تستطيع بيع قميص من القطن بقيمة تتجاوز محصول حقل كامل من القطن؟ كيف تستطيع أن تبيع ساعة سويسرية واحدة بقيمة شقة صغيرة في سويسرا نفسها؟ الحقيقة أن الإجابة على هذه الأسئلة تبدو بدهية ولكنها ليست كذلك. قبولنا بها الآن كواقع فرض نفسه لا يعني أنها محسومة نظرياً ولا زالت تثير الجدل. من المسؤول عن هذا؟ السوق؟ الإعلام؟ وأي العلوم هو الأقدر على تفسيرها: علم النفس؟ الاقتصاد؟ أو علوم الفضاء؟!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما يفهمه صاحبنا الاقتصاديّ العريق هو أن أي سلعة يرتفع ثمنها لأحد العوامل المعروفة: تكلفة الصنع، الطلب، العرض، سعر المنافسين، القدرة الشرائية، القوانين. ثم نلاحظ أن تلك الحقيبة والحذاء والساعة والقميص لا تتأثر بأي منها. وذلك ما أدى إلى إضافة عامل جديد وهو التسويق. فهذا الأخير هو المسؤول الأهم في هذه الظاهرة. كيف فعل المسوقون هذا؟ إن التطور النظريّ لعلم التسويق منذ انطلاقته بعد الحرب العالمية الثانية تقريباً كان أسرع من بقية العلوم، وذلك لأنه يلتهم بشراهة جميع نظريات العلوم الاجتماعية الأخرى ويعيد استغلالها في نموذجه النظريّ. وهذا النموذج الضخم بدأ بداية متواضعة تقتصر على تمييز سلعة ما عن بقية السلع المنافسة وانتهى إلى القدرة على تشكيل وعيّ المستهلك بخلق قيم وعادات وسلوكيات وثقافات دون إرادته أحياناً.
وهكذا، فإن صاحبنا الاقتصاديّ العريق، وبعد الاطلاع على النموذج النظري لعلوم التسويق التي تكونت بعد وفاته بعقود من الزمن، بدأ يستنتج أن التسويق قام بإعادة تشكيل وعي المستهلك بحيث يتجاهل جميع الأسباب الاقتصادية المنطقية التي يتم من خلاها تحديد السعر العادل لسلعة ما، ويكتفي بالانضمام إلى وعيّ كليّ وجمعيّ يردد بصوت واحد: إن من يلبس هذا القميص، ويرتدي هذا الحذاء، ويحمل هذه الحقيبة هو شخص من النوع (س). ثم تقوم الشركة، عبر آلتها التسويقية العملاقة، بوضع صفات لهذا الشخص (س) يتمناها عدد كبير من الناس. وتبدأ هنا عملية تسويقية معقدة تسمى ربطية الماركة Brand Association. هذه العملية لها هدف واحد فقط: تشكيل وعي المستهلك بحيث يربط بين ماركتهم وبين مجموعة من القيم المحببة له والتي يريد أن يتسم بها. مثلاً: ربط ماركة حقيبة ما بقيمة الثراء والمكانة الاجتماعية. وهي قيمة محببة عند الشخص، وإذا اقتنع بهذا الارتباط فإنه سيقوم بشراء هذه الماركة بغض النظر عن السعر والعرض والطلب والتكلفة إلخ.