تقترب الانتفاضة العراقية التي انطلقت مطلع أكتوبر (تشرين الأول)، من شهرها الرابع، ولا يزال شبابها مرابطين في ساحات الاحتجاج التي تشمل معظم المحافظات الوسطى والجنوبية.
ولعل تلك الانتفاضة التي حملت شعار "نريد وطناً"، أخذت الصدى الأوسع بين كل حركات الاحتجاج والتغيير في تاريخ العراق الحديث، حتى عكستها على بلدان أخرى مثل لبنان الذي يعاني أنظمة المحاصصة الطائفية والحزبية، فضلاً عن أنها تتحرك في منطقة النفوذ الإيراني المتصاعد.
وعلى الرغم من مجابهة تلك الانتفاضة بكل وسائل العنف المفرط والقمع، من تغييب وقتل واختطاف واغتيالات طالت ناشطين وصحافيين، وعمليات الترهيب الممنهجة، لكن ذلك على ما يبدو، لم يؤد إلى تراجع المنتفضين عن إرادتهم لما يطلقون عليه "استعادة الوطن المختطف".
انتفاضة تعدت حدود الساحات
ولعل التساؤل الأبرز الذي يدور الآن هو ما الذي حققته تلك الانتفاضة من مكتسبات على الأرض؟ حيث يشعر المتظاهرون العراقيون أن أحد أكثر المكتسبات المتحققة وأهمها هو خلقهم حالة تكاتف اجتماعي، وأن انتفاضتهم تعدت حدود ساحات الاحتجاج وباتت مطالبها تمثل رؤية أغلب العراقيين، من خلال تجاوز الهويات الفرعية أمام الهوية الوطنية، وهذا ما لم يتحقق منذ الغزو الأميركي للعراق وبداية التشظي الطائفي والقومي وصناعة نظام المحاصصة الحزبية والطائفية.
وعلى الرغم من العنف الذي جوبهت به الاحتجاجات خلال الأشهر الماضية، ما خلَّف حوالى 700 قتيل و25 ألف جريح، لكنها لم تتراجع مع استمرار التصعيد.
وتتمحور مطالب المحتجين العراقيين بخطوات تمهد لانتخابات مبكرة بإشراف أممي يضمن عدالتها ونزاهتها، فضلاً عن تغيير قوانين تلك الانتخابات ومفوضيتها بما يتجاوز مبدأ المحاصصة الذي قامت عليها المفوضيات السابقة، وترشيح رئيس وزراء مستقل لمرحلة انتقالية يضمن شفافية تلك الإجراءات. لكن القوى السياسية، وتحديداً تلك المرتبطة بإيران، لا تزال متعنتة في تنفيذ تلك المطالب، وأبرز ما يخيفها هو عدم وجود ضمانات لها بأن المرحلة المقبلة لن تشمل ملاحقتهم قضائياً في ملفات فساد وقتل، وتحديداً فيما يتعلق بقمع الانتفاضة، وهذا أحد أبرز المطالب الشعبية، بحسب مراقبين.
نهاية مرحلة المحاصصة الطائفية
وبينما تتفاوت آراء المحتجين حول المتحقق من منجزات في انتفاضتهم، إلا أنهم يجمعون على أنها نجحت في تفتيت مفهوم الطائفية على المستوى الاجتماعي، ويرون أن ذلك يعني نهاية مرحلة المحاصصة الطائفية في إطارها السياسي مستقبلاً، التي فشلت في بناء الدولة.
ورأى الكاتب والصحافي مشرق عباس أنه على الرغم من تعنت السلطة في تنفيذ مطالب المنتفضين فإنها نجحت في تحقيق أهدافها من خلال صناعة وعي وطني يحدث للمرة الأولى منذ عام 2003، وكشفت مدى هشاشة مشروع "الإسلام السياسي في العراق وتورط الكثير من أطرافه في الفساد والحصول على الأصوات بالتزوير ومدى رفض العراقيين لهم".
نهاية مشروع "الإسلام السياسي"
ووصف الحراك بأنه "انتفاضة وعي تجعلنا نشعر بفخر إزاء شباب صغار قبروا الطائفية التي تمثل ركيزة النظام السياسي العراقي ولا يمكن أن تتكرر مرة أخرى".
وأوضح لـ"اندبندنت عربية" أن "مشروع الإسلام السياسي وصل إلى نهايته باعتباره جزءاً من أزمات البلاد"، وتابع، "هذه العملية السياسية انتهت عام 2014، عندما فشلت في حماية البلاد من تنظيم داعش وكان يفترض حينها تشكيل عملية سياسية جديدة وفق عقد اجتماعي جديد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعبر عن أمله بأن "يُترجم نجاح الانتفاضة بطرق سلمية من خلال خريطة الطريق التي وافقت عليها التظاهرات والمتمثلة بإقرار قانون انتخابات عادل ومفوضية نزيهة وحكومة انتقالية وانتخابات مبكرة".
وأشار إلى أن "السيناريو الأول للتغيير يحصل في صناديق الاقتراع، لكنه محكوم بنية الأطراف السياسية بتفهم ما حصل في العراق من تغيير جذري. أما إذا كانت غير جادة ومضت بقانون انتخابات شكلي ومفوضية تحاصص وحكومة انتقالية تابعة للأحزاب، فإننا أمام سيناريو خطير وهو الانفلات"، مبيناً أن تعنت القوى السياسية وعدم رضوخها قد يؤدي إلى عودة خيار اسقاط النظام بالكامل".
قوى "شيعية" خائفة
ولعل ما حصل من تغييرات على المشهد العراقي إثر الانتفاضة، لم تستثن السياسيين وتحديداً القوى الشيعية ذات الارتباط بفصائل مسلحة قريبة من إيران، إذ إن تلك القوى باتت تتخوف من الجمهور الشيعي الذي يحمّلها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في العراق، فضلاً عن اتهامات طالتهم من قبل المحتجين بالوقوف وراء عمليات القمع الممنهجة التي مورست عليهم، لكنها أيضاً دخلت في مواجهة مباشرة مع أميركا ما جعلها تمر بأسوأ أحوالها منذ عام 2003.
في المقابل، قال الباحث في الشأن السياسي فلاح الذهبي، إن "الانتفاضة نجحت في جعل بعض القوى الشيعية غير قادرة حتى على التجول، وباتت مختبئة، خوفاً من المحتجين وخوفاً من اصطيادهم أميركياً".
وأضاف، "هذه القوى لا تفكر سوى بالإتيان برئيس وزراء يجنبها الاستجواب والعقوبة على ما اقترفته في الفترة الماضية، لكنها عاجزة عن ذلك"، لافتاً إلى أنها "باتت أيضاً تشكّل عبئاً على إيران الداعم الرئيس لها".
ورجح الذهبي ألّا تستمر تلك الطبقة السياسية في الحكم، معلِلاً ذلك بـ"ثبات المحتجين العراقيين، فضلاً عن إصرار رئيس الجمهورية التعاطي معهم أكثر من سعيه لتقبل ما ينتج من تلك القوى السياسية، على الرغم من الشتائم والتهديد والضغوط التي يتعرض لها".
ولفت إلى أن "الإصرار على قمع الانتفاضة قد يؤدي إلى نشوب نزاع مسلح يدفع شيوخ عشائر الجنوب لحماية أبنائهم"، مبيناً أن "المنتفضين يسعون لتدويل القضية ويبدو أنهم حصلوا على رد إيجابي".
وعن المتحقق من مطالب المحتجين، بيَّن الذهبي أنه "لم يتحقق الكثير على المستوى السياسي، والشارع ينظر لتلك القوى على أنها هبَّت لإرضاء إيران بعد مقتل سليماني والمهندس، لكنها لم تفعل شيئاً لإرضاء شعبها، إذ لم يُقر قانون الانتخابات ولم تُحدد مدة للانتخابات المبكرة أو حسم اختيار رئيس وزراء غير جدلي"، لافتاً إلى أنه "حتى استقالة رئيس الوزراء كانت شكلية وهو حتى الآن مستمر والقوى المسلحة المختطفة للدولة تفرض ذلك".
خلق "الأنا الوطنية"
وفي سياق الحديث عن منجزات الانتفاضة العراقية، رأى الكاتب والناشط علي المياح، أن "ما تحقق إلى الآن جيّد، فإطاحة رئيس الوزراء وانتزاع تشريع مهم من البرلمان بخصوص قانون الانتخابات، أبرز ما يمكن تحسسه كنتائج آنية لهذه الانتفاضة"، مبيناً أن "تصاعد وتيرة الاشتباك الأميركي الإيراني أسهم إلى حد ما، بكبح تقدم انتفاضة أكتوبر باتجاه انتزاع مكتسبات أخرى من الطبقة السياسية".
وأضاف، "يبقى الإنجاز الأهم والأعمق والأكثر تأثيراً على المدى البعيد، هو أن هذه الانتفاضة خلقت الأنا الوطنية وجعلتها تفرض نفسها كهوية جامعة تمثل بديلاً عن الهويات الطائفية الموظفة من قبل القوى السياسية، كرأس مال يستثمر لديمومة النظام الطائفي المكرس لتنمية الإقطاعيات السياسية التابعة لأمراء الطوائف".
وعن انعكاسات الانتفاضة العراقية على المنطقة، بيَّن المياح أنها "أثبتت أمراً مهماً آخر على مستوى المنطقة، فقد قدمت صورة تجلي لخيبات أنظمة المحاصصة وفشلها كنظام حكم يمثل حلاً لا بديل له لمشكلات التنوع الإثني والطائفي في دول المشرق العربي، حيث أثبت شباب أكتوبر، عبر نبذهم للخطاب الطائفي، أن النظام الديموقراطي القائم على أساس المواطنة هو الحل حتى في أشد النماذج تعقيداً من ناحية التنوع كالنموذج العراقي أو السوري واللبناني".
استعادة الوطن المختطف
وعلى الرغم من كل الإشكالات التي شابت الانتفاضة، التي كانت تهدف للتشويش عليها أو إنهائها، بدءاً من استخدام قناصين وصفتهم الحكومة بـ"المجهولين"، وتخوين المحتجين واتهامهم بأنهم يمثلون "أجندات أميركية وإسرائيلية"، واستمرار عمليات القمع واستخدام الرصاص الحي، وصولاً إلى الانسحاب الأخير للتيار الصدري، إلا أن كل تلك العوامل لم تؤد إلى انتهاء الانتفاضة، بل إنها مستمرة بالتصعيد، وبحسب ناشطين، فإنهم لن يتراجعوا حتى تحقيق كل مطالبهم.
من جانبه، يقول الناشط محمود حميد، إن "التعامل يمكن أن يكون مع نوعين من النتائج، قريبة الأمد وآنية، وأخرى تظهر آثارها على المدى البعيد"، مردفاً، "على مستوى المطالب التي رفعتها الاحتجاجات والمشروطة بسقوف زمنية لغاية الآن، لم يتحقق مطلب واحد، بالنظر للمماطلة والتسويف اللذين تمارسهما القوى السياسية".
ويضيف "لكن هناك تحولات مهمة على المستوى الاجتماعي لم نكن نشهدها في السابق، منها الخطاب الوطني الذي تبنته الاحتجاجات، ومغادرة الخطاب الطائفي، ورفع المطالب كان في إطار نريد وطناً ولم يكن منطلقاً من محفز ديني أو مكوناتي".
ويبيَّن حميد أن "المجتمع العراقي اجتاز الكثير من العقبات التي كانت تحول بينه وبين مسيرة التصحيح التي كانت منتظرة وينظر لها، نحن اليوم أمام شعب يضع القوى والزعامات كافة تحت المساءلة والنقد ولا حصانة لأحد".
مستمرون في حراكنا لـ"استعادة الوطن"
"ما نسعى له هو استعادة الوطن المختطف من قبل القوى الخارجة عن القانون، ولن نتوقف حتى تحقيق هذا الهدف"، هكذا ما قاله الناشط في محافظة واسط محمد النائلي.
وتابع "المحتجون يعتقدون أن مطالبهم هي البداية المنطقية ضمن الدستور لتحقيق التغيير المنشود"، لافتاً إلى أن "ما تحقق حتى الآن هو إقالة عبد المهدي وقانون انتخابات لم يصادق عليه فقط".
وأشار إلى أن "اللافت هو دخول الرأي العام كعنصر فاعل في اختيار رئيس الوزراء وفي والضغط على القوى السياسية، حتى بات واضحاً عندما غيَّر الكثير من السياسيين رأيهم حول الانتخابات المبكرة".
أما الناشط علي الركابي من محافظة ذي قار، فيقول إنه "مع اقتراب دخولنا في الشهر الرابع لانتفاضتنا السلمية، وتصعيد السلطات القمعية وتزايد أعداد القتلى، فلا خيار أمامنا إلا الاستمرار حتى تحقيق كل المطالب التي قُتل من أجلها زملائنا".
أضاف "حتى الآن حققنا مكاسب متمثلة في قانون الانتخابات وإجبار عبد المهدي على التنحي. هما مطلبان مهمان للثورة، ومستمرون بالضغط وعدم التراجع لحين اختيار رئيس وزراء مستقل وتحديد موعد لانتخابات مبكرة".
وأشار إلى أنه "على المستوى الشعبي حققت التكاتف وطمس الهوية الفرعية وتفعيل الهوية الوطنية، وحصر الكتل والأحزاب في زاوية ضيقة تبين للعالم الرفض الشعبي لكل الطبقة السياسية الحاكمة".
"لحظة صارعت المستحيل"
أما الناشط علاء المانع من محافظة بغداد فيرى أن "لحظة أكتوبر فاجأت الجميع، وأخذت صدارتها من طابعها الشبابي"، وصفاً الانتفاضة بأنها "لحظة صارعت المستحيل، وأسست لحقبة جديدة في العراق".
وأضاف "نحن في انتظار إكمال النصر، ونحن واقفون في الساحات ثابتون على الرغم من كل شيء لإتمام ما تبقى من استرجاع العراق واستعادته".