في 24 يناير (كانون الثاني) يكون مضى 100 يوم على انطلاقة الانتفاضة الشعبية التي تفجرت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 في وسط بيروت، والتي خلقت دينامية سياسية وجماهيرية وشبابية غير مسبوقة في التاريخ اللبناني، لكنها تخضع في الظروف الراهنة لتحديات كبرى حول قدرتها على تحقيق أهدافها ومعالجة ثغرات صادفتها، بقدر الإنجازات التي حققتها حتى الأمس القريب.
تحولت الانتفاضة اللبنانية سريعاً، بعد انطلاقها، إلى زلزال هدد الطبقة السياسية الحاكمة، المستندة إلى حصانات طائفية وحزبية راسخة في المجتمع. وهي تسعى الآن إلى الالتفاف عليها، لإجهاضها من طريق العودة إلى التحصن وراء التمثيل الطائفي، الذي يتقن زعماؤها إدارة لعبته.
ومع رفض الشارع الحكومة الجديدة، برئاسة الدكتور حسان دياب، لأنها تشكلت على قاعدة المحاصصة بين بعض أحزاب السلطة، يبدو التحدي الأول الذي ستواجهه هو مدى قدرتها على إسقاطها، طالما أن استمرار هيمنة هذه الأحزاب على تركيبتها يتناقض مع كل الشعارات التي رفعها المتظاهرون خلال الأشهر الثلاثة الماضية ونيف. لكن هذا التحدي ترافقه تحضيرات قوى السلطة لضمان وصول النواب إلى البرلمان بعد تظاهرات الأسبوعين الماضيين، بعدما أدت محاولات الدخول إلى ساحة النجمة إلى اندلاع عنف غير مسبوق بينهم وبين القوى الأمنية والجيش. وفي وقت تعقد الاثنين والثلاثاء في 27 و28 الحالي جلسة نيابية تحضرها الحكومة الجديدة لمناقشة وإقرار موازنة 2020 قبل جلسة الثقة، فإن رئيس البرلمان نبيه بري بقي على اتصال خلال اليومين الماضيين بقائد الجيش العماد جوزيف عون، من أجل الاطمئنان إلى ضمان انتشار الجيش في شكل يسمح بوصول النواب إليها، وكذلك إلى جلسة الثقة بالحكومة التي سيتحدد موعدها فور انتهاء الحكومة من إقرار بيانها الوزاري وبرنامجها لمعالجة الأزمة الاقتصادية المالية المستفحلة.
فشعور مجموعات الانتفاضة أن استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري تحت ضغط تحركاتها في الشارع، على الرغم من ضغوط تلك الأحزاب عليه كي لا يستقيل، أخرج بعض رموزها من الباب ليعودوا من نافذة حكومة دياب عبر مجموعة من المستشارين، فضلاً عن أنها جاءت من لون واحد يقتصر على قوى 8 مارس (آذار) السابقة، المكونة من حلفاء "حزب الله" والقوى التي تتحلق حوله. لكن اليوم 101 من الانتفاضة، السبت، سيشهد تظاهرات عدة تنطلق من العاصمة وتنتقل إلى بعض المواقع الرسمية لتحط قرب البرلمان، كما في الأيام الماضية، فضلاً عن تجمع يوم الجمعة للاحتفال بالمئوية.
جردة الإنجازات
لا يمكن الاستهانة بما حققته الانتفاضة في الشارع في أي جردة. بات مسلماً أن اتخاذ الانتفاضة صفة العابرة للطوائف بسبب امتزاج عوامل عديدة، أطلق في الوقت نفسه إمكان نشوء شريحة واسعة في المجتمع خارج الاستقطاب الطائفي، يمكن لها في المستقبل أن تلعب دوراً مؤثراً في إخراج نظامه من مرض الطائفية، التي ولدت الحروب وأقامت نظاماً زبائنياً مقيتاً ومنظومة تقاسم للمغانم تصاعدت شراهتها إلى تشريع الفساد فيه على أنه جزء من حقوق الطوائف والزعامات التي تتربع على قيادتها. والصفة العابرة للطوائف هذه كانت في الوقت نفسه عابرة للمناطق بحكم تمركز كل طائفة في منطقة معينة أو أكثر، ما أدى إلى كسر حاجز الخوف من قوى السلطة النافذة والتي لدى معظمها سطوة أمنية.
بدفع الانتفاضة الحريري إلى الاستقالة، لم يكن الإنجاز الوحيد ذهاب حكومة تقاسم المغانم. فإبعاد رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل الذي حولته الانتفاضة إلى رمز لفساد السلطة وجشع قواها جعل من إزاحته عن دور أوكل إليه بحكم تحالفه مع الفريق الأقوى في التركيبة الحاكمة خطوة دفعت "حزب الله" إلى مراجعة لعبته السياسية الداخلية ولو على مضض.
شكل نبذ باسيل من شركاء في السلطة نقطة تقاطع بينهم وبين الاحتجاجات الشعبية، على الرغم من أن مجموعات من المحتجين تساوي بينه وبين سائر شركائه، الذين أصابهم الزلزال مثلما أصاب حزبه أيضاً. فقوى التسوية السياسية التي عمقت مساوماتها الأزمة الاقتصادية، لم تسلم من خروج قواعد لها عن عباءتها للانضمام إلى الاحتجاجات الشعبية التي عمت المناطق، حتى في صفوف جمهور الحزب الحديدي الذي استطاع تعبئة مناصريه من طريق المنافع والخطاب الديني والمذهبي في السنوات الماضية. وبات جزء من هذا الجمهور الشديد الولاء لـ "حزب الله" بسبب مقاومته لإسرائيل، يسأل عما فعلته تبعيته لإيران وانخراطه في إستراتيجيتها الإقليمية للفقراء الذين ازدادوا فقراً جراء تغطية الحزب للتنافس على المغانم. وهذا من أسباب تعديل قيادة الحزب تعاطيها مع الانتفاضة، بعدما حاول قمعها بسبب اتهامها بالاشتراك في المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع المعيشية.
أما في الأحزاب الأخرى، فإن الاهتزازات كانت أشد وطأة على قياداتها التقليدية، بحيث بات محازبون لا يطيعون أوامر قياداتهم، وبعضهم غادر حزبه وانضم إلى المحتجين. لكن درجة انفكاك بعض الجمهور عن أحزابه لن تظهر إلا في انتخابات نيابية تحدد حجم ذلك.
الشباب والنساء
برز في الأسابيع الأولى من التحركات الشعبية دور كبير لعنصر الشباب اللبناني التواق للخروج من القوقعة الطائفية، وابتكار أساليب خلاقة لتزخيم التحركات الاحتجاجية، تختلف كلياً عن الوسائل التقليدية، بدءاً من الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي من أجل تنظيم التحركات ورفع الشعارات، مروراً بفتح أشكال الحوار الهادئ حول القضايا الشائكة كافة التي يواجهها لبنان، انتهاءً بإقامة النشاطات الفنية والتثقيفية التي أتاحت اعتماد النفس الطويل وإدامة التحركات الشعبية.
وأعطت الانتفاضة بعداً عملياً لدور المرأة إن على الصعيد التنظيمي أو على صعيد معالجة تعقيدات كان يمكن أن تغرق الانتفاضة في مواجهات طائفية، كمثل الدور الذي لعبته الأمهات في تنفيس الاحتقان بين منطقتي الشياح وعين الرمانة، اللتين ترمزان إلى الحرب الأهلية الطائفية منتصف سبعينيات القرن الماضي، فبدّدن أي توتر. كما أظهر قدرة تنظيمية وقيادية عند العنصر النسائي أسهمت في إعلاء سلمية التظاهر على أي مظاهر عنفية، حين تولت النسوة الفصل بين شبان متحمسين في بداية تحركات الشارع، وبين القوى الأمنية.
اهتزاز معادلة السلطة... والموقف الدولي
نجحت الانتفاضة اللبنانية على الصعيد السياسي في خلخلة تماسك السلطة والمعادلة الحاكمة، بدءاً بإسقاط الحكومة وشعار الانتخابات النيابية المبكرة مع قانون انتخاب جديد، لتغيير الطبقة السياسية، ما زاد في ارتباك القوى الأكثر نفوذاً، التي ارتفعت نسبة الارتباك في صفوفها، على تفاوتها. أكثر من شعر بالاهتزاز هو تيار رئيس الجمهورية ميشال عون وباسيل، الذي لجأ تارة إلى تبني مطالب المحتجين ضد الفساد وسرقة المال العام، وأخرى إلى إنكار فعالية الشارع في التأثير في المعادلة القائمة. قاد الفرز السياسي داخل الطاقم الحاكم إلى تباين بين فريق الرئاسة وبين قائد الجيش، لرفض الأخير طلبات عون من أجل قمع المتظاهرين ومنعهم من قطع الطرقات.
أما "حزب الله" فشعر بأن التحالف الذي نسجه ومكنه من الحصول على الأكثرية النيابية في انتخابات عام 2018 سينكشف نتيجة إضعاف تيار عون، فرفض فكرة الانتخابات النيابية المبكرة، ومطلب إقالة رئيس الجمهورية تحت شعار "كلن يعني كلن" لإخراج الجميع من السلطة. واعتبر الحزب أن هذا يقود إلى سقوط كل الإنجازات التي حققها بإحكام نفوذه داخل لبنان ضمن المؤسسات الدستورية، التي شكلت غطاءً شرعياً له. وخابت توقعات فريق الرئاسة و"حزب الله" بانتهاء الانتفاضة نتيجة تعب المتظاهرين مع الوقت، واستخدام القسوة إزاء إقفال الطرقات، فحصل العكس وتعاطف المزيد من اللبنانيين مع الحركة الشعبية على الرغم من انزعاج قطاعات واسعة أيضاً من هذا الإقفال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ازدادت ريبة "حزب الله" من آثار الانتفاضة السلبية فيه، على الرغم من أن المحتجين لم يطرحوا مسألة سلاحه، وذلك نتيجة تزامن الانتفاضة الشعبية مع تلك التي سبقتها في العراق، والتي تبعتهما في إيران. وأخذ ينظر إلى تصاعد الاحتجاجات في لبنان في الإطار الإقليمي وسط احتدام المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية وطهران. وحذر أمينه العام السيد حسن نصر الله من أن جهات خارجية تريد حرف الحراك عن مطالبه الاقتصادية للتعبير عن قلقه من استفادة واشنطن من النقمة الشعبية ضد حكومات الدول الثلاث بهدف إضعاف "محور المقاومة".
وعزز تلك الريبة التأييد الذي لقيه الحراك في الدول الثلاث من واشنطن والتحذيرات الدولية من قمع التظاهرات بالعنف، كما في إيران والعراق. وهذا ما دفع الحزب إلى استخدام مناصريه وعناصر "سرايا المقاومة" ومحازبي حركة "أمل" في تنفيذ سلسلة غزوات على ساحتي رياض الصلح والشهداء لتحطيم خيم المحتجين وإرهابهم لعلهم يخافون. لكن رد الفعل جاء عكسياً تضامناً معهم، وتسبب باستياء واسع في المناطق المسيحية الحليفة للحزب، فلجأ إلى اختراقهم بدعم نصب خيم في الساحتين من مناصريه وبعض التنظيمات الحليفة له في قوى 8 مارس.
ماذا بعد؟
مع ثبات مجموعات الانتفاضة، وهي بالعشرات، على رفضها تشكيل قيادة تفاوض السلطة كما طلب الرئيس عون وتنظم تحركاتها وتنطق باسمها، تبين أنها تجنبت بذلك محاولات تشتيتها، مستفيدة بذلك من تجارب دول أخرى أدت مفاوضات المنتفضين مع السلطة إلى إضعاف زخمها.
وعكفت المجموعات المشاركة على تقييم مرحلة المئة يوم في اجتماعات عقدتها خلال الأيام الماضية، فرضتها حالة العنف التي شهدها الأسبوعان الماضيان في وسط بيروت نتيجة الإصرار على الدخول إلى باحة البرلمان، واستخدام قوى مكافحة الشغب وسائل قمعية إزاء رشقها من مجموعات جاءت من الشمال والبقاع. كما فرض ذلك تأليف حكومة دياب وما يحيط بمطلب إسقاطها.
ويقول أحد قادة المجموعات لـ "اندبندنت عربية" إن ما حصل ليس عنفاً من المتظاهرين بل شغب، لأن عنف المحتجين كلمة كبيرة، إذ إنه ليس مبنياً على إستراتيجية وغير ممنهج فضلاً عن غياب قوى منظمة تدعو إليه. ورأى أنه أسوأ خيار إستراتيجي في مثل النسيج الاجتماعي السياسي اللبناني. ويسأل "ألا يمكن اعتبار ممارسات النظام عنفاً حين يفرض على المواطنين أن يقفوا ساعات في المصارف كي يحصلوا على جزء من راتب أو من مدخرات لمتطلبات العيش الصعبة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة؟ أليس اعتقال صديق أو شقيق عنفاً تجاه الانتفاضة؟ لذلك الشغب كان استثناءً".
انتفاضة ثانية أم موجة ثانية؟
وفي وقت يرى مراقبون سياسيون أن الانتفاضة ضعفت وتراجع بريقها وأثرها بعد مخرج السلطة بتأليف حكومة دياب، وأنها إلى تراجع في المرحلة المقبلة، يفيد التقييم الأولي عند مجموعات الانتفاضة أنه لا يمكن التكهن المسبق باستعدادات الشارع، الذي ما زالت الطبقة الحاكمة تنتظر رد فعله. إذ إن أهم ما تحقق هو معادلة المواجهة بين الشارع والسلطة، التي غلبت على أي شيء آخر. ويقر القيادي نفسه بأن ترسيخ نتيجة هذه المعادلة يحتاج وقتاً لقطف ثمارها. لكن من أهم مفاعيلها أن محاولات طرح خطاب طائفي أو مذهبي لم يعد يلقى تجاوباً. وبات الشباب هم الذين يؤثرون في أهاليهم في هذا الاتجاه.
ولا يستبعد القيادي إياه أن تشهد الانتفاضة تراجعاً في المرحلة المقبلة، نتيجة التعب، وتفاقم الوضع المعيشي. والبحث هو في طريقة التعاطي الآن مع الحكومة الجديدة المرفوضة حكماً، لأنها أبقت على الطبقة إياها متحكمة بالسلطة وبالتالي أبقت على أسباب الانتفاضة قائمة. ففي لبنان النظام ليس ديكتاتورياً كغيره من الدول حتى يتمكن من القضاء على الحركة الاحتجاجية. وعليه، يشمل النقاش أسلوب تعبئة الجماهير، من دون إلغاء خيار التحرك الأسبوعي مثلاً، بدلاً من اليومي. ويعتبر أن الأفضل التركيز على المطالب المعيشية والاقتصادية وتوضيحها وجدولتها. فإذا لم تحقق الحكومة للناس في المرحلة المقبلة خفضاً لإجراءات المصارف، ولم تلجم ارتفاع سعر صرف الدولار، ولم تعالج العجز في الموازنة ولم تؤمن المواد الضرورية الأساسية وتحرك الاقتصاد ولو نسبياً، وماطلت في تنفيذ وعود مكافحة الفساد والهدر، فإن انتفاضة ثانية أكثر اتساعاً وشمولاً ستنطلق بعد شهرين أو ثلاثة. ومن الطبيعي مراقبة ورصد ما يقوم به البرلمان والحكومة في هذا المجال.
ويتفق قيادي آخر مع زميله في حديثه إلى "اندبندنت عربية" على أن اجتماعات التقييم بين المجموعات المختلفة تناقش بلورة الموقف بعد تأليف الحكومة، التي سيبقى شعار إسقاطها قائماً بصرف النظر عن القدرة على تحقيق ذلك قريباً. ويشير إلى أن مواكبة الوضع الجديد بعد الحكومة بخطوات مقبلة، قد يفرض بحثاً معمقاً في تنظيم الانتفاضة، لأن العمل من قبل مجموعاتها في المرحلة السابقة اقتصر على التنسيق في توحيد الشعارات والخطوات اللوجستية التي اعتمدت في جانب منها على المبادرات الخلاقة، أكثر من التنظيم. وبالتالي، هذا قد يفرض تطوير الممارسة إلى إطار تنظيمي ينتقل بالخطاب الثوري إلى تحديد كيفية التعامل مع الشارع انتقالاً من أن ما نطمح إليه من إنجازات اقتصادية وسياسية، وهناك ما هو ممكن تحقيقه منها. وتتشابه توجهات القيادي نفسه مع غيره في الحديث عن إبراز المطالب الاقتصادية والمالية التي هناك شكوك في قدرة حكومة دياب على تحقيقها، لأن الجهات التي أنتجتها غير قادرة على ذلك.
ويرجح القيادي نفسه ألا تعرقل الانتفاضة جلسات البرلمان لإقرار الموازنة لأن إنجازها كان من مطالب المحتجين، لكنه يرى أنه لا مهرب من السعي إلى منع النواب من الوصول إلى البرلمان لمنح الحكومة الثقة. فالشارع يسخر من مقولة إعطائها فرصة كي تنجز. وسواء نجحت الانتفاضة في ذلك أم لا، يعتبر أن هناك موجة ثانية من الانتفاضة ستأتي حكماً، بعد انكشاف عجز الحكومة عن تحقيق المطلوب.