Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قاسم حداد .. جائزة فرَّت من يد "الوعول" واستقرت في يد شاعرها

"ملتقى" القاهرة مازال محط سجال مصري وعربي

الشاعر البحريني قاسم حداد (يوتيوب)

يبدو فوز الشاعر البحريني قاسم حداد بجائزة ملتقى القاهرة الخامس للشعر العربي هو القيمة الوحيدة والمؤثرة التي تركها خلفه سوق للشعر يؤمه المُطَفِّفُون وأدعياء الصنعة ورجال الماضي. هؤلاء الذين ما زالوا يمارسون مهمتهم التاريخية بقتل الشاعر لصالح ظله. وهو المعنى ذاته الذي عبّر عنه الشاعر حسن طلب، عضو اللجنة المنظمة المنسحب، عندما أعلن براءته مما انتهت إليه اختيارات اللجنة لا سيما في ما يتعلق بالمشاركة المصرية، التي، حسب تعبيره، " تبدو كأنها أهملت الأهم لصالح الأقل أهمية". صحيح أن أية اختيارات لن تحقّق رضا الجميع، لكن ثمة حدود أدنى يجب أن يتحلى بها عمل على هذه الدرجة من النوعية بحيث يضمن لنفسه في النهاية أن يمثل مساهمة في فرز ثمين المشهد الشعري من غثه، وأن يكون مكافأة للموهبة لا طريقاً للتنكيل بها، أن يكون معياراً للانحياز الجمالي لا السياسي ولا المناطقي، وأن يعزز فكرة التجديد لا أن يمتهنها عبر الاحتفاء بأضعف حلقاتها. فكيف أصبحت القيمة تعمل ضد نفسها وكأنها ليست إلاّ تعبيراً عن كل نقائضها؟! ليس مدهشاً إذاً أن تكون النتائج ذَرِيَّةً، مهينة للشعر وأهله. لذلك، فنحن لا نبالغ عندما نقول إن بعض المساحيق التي امتلكتها لجنة التحكيم، استطاعت أن تعالج، بالكاد، بعض التشوهات في الوجه المجدور لملتقى ربما هو الأكثر بؤساً. اللجنة التي ترأسها الدكتور جابر عصفور تشكلت من وجوه نقدية وشعرية طليعية في معظمها: رشا ناصر العلي، سعد البازعي، نبيل حداد، عبد السلام المسدي، محمد إبراهيم أبو سنة ومحمد بدوي.

يتأكد هذا المعنى عندما نعلم أن منافسي قاسم حداد بين أصحاب التجربة الشعرية المستقرة والمنتمية لشعرية المد القومي، يستوي في ذلك كل من الدكتور علي جعفر العلاق والشاعر محمد على شمس الدين والشاعر شوقي بزيع، من دون أن يعني الأمر مساساً بقيمتهم الشعرية. فهم لا شك أصحاب منجز مائز ومؤثر بدرجات مختلفة. ولا أعرف هل كان طرح اسم قاسم حداد، منذ بداية الإعداد للملتقى، كان سبباً في غياب الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عن فعالياته للمرة الأولى. على كل حال، ربما كانت فرضية ممكنة التصديق لأن حجازي لا يفتأ، بمناسبة وبغير مناسبة، أن يصنف قصيدة النثر بأنها شكل أدبي هجين، ومهما قدمت من طرافة فهي لا تمت للشعر بصلة. ويتذكر شعراء قصيدة النثر جيداً أن حجازي كرّس لرأيه هذا كتاباً صدر قبل أكثر من عشر سنوات تحت عنوان  "القصيدة الخرساء". غير أن الجائزة، على الرغم من كل هذا، يبدو أنها أفلتت من يد الوعول واستقرت في يد شاعرها.

تراجع المحافظين

ولا شك أن ذهاب جائزة الملتقى للبحريني قاسم حداد يعني الكثير بالنسبة إلى الشعرية المصرية والعربية على السواء. فهو من ناحية يبدو اعترافاً مصرياً مؤسسياً غير مسبوق بقصيدة النثر، على ما في ذلك من دلالة تؤشر أولاً على أن منجز قصيدة النثر العربية أصبح عصياً على الإقصاء ومن ثم لا يمكن الاستمرار في تجاهله، وثانياً يبدو الأمر دالاً، بشكل أو بآخر، على تراجع  ضغوط المحافظين الذين يدافعون ببسالة عن حتمية انتصار الماضي، وهو تراجع لا أتمنى له أن يكون مؤقتاً أو عارضاً، لا سيما أنه تشكل في مواجهة موقف بدا عقائدياً من فكرة التجديد لدى المحافظين في المؤسسة الثقافية المصرية. ومع ذلك، سيظل مدهشاً أن يتذيل ملتقى القاهرة  قائمة جوائز عربية رفيعة وذات مصداقية بما يقرب من عشرين عاماً، إذ فازت تجربة حداد نفسها بجائزة سلطان العويس في دورة 2000/2001، كما فازت تجربة المغربيين محمد بنيس ومحمد بن طلحة واللبناني وديع سعادة بجائزة الأركانة  المغربية قبل سنوات عدة، وهي جميعها تجارب نموذجية في قصيدة النثر العربية.

 تتأتى بعد ذلك أهمية تجربة قاسم حداد كواحدة من تعبيرات النص الشعري الجديد والمقتحم سواء كان ذلك على المستوى العربي بأسبقيته ضمن شعراء جيله، بحيث بدا واحداً من رواد التجديد في جيل الوسط، أو بالمعنى السوسيوثقافي الذي يضيف على كاهل تلك التجربة تعقيدات مركبة بحكم صعودها في بيئة لا تمتدح القديم فحسب، لكنها تقاتل من أجل تمدّده واستمرار سيطرته على الذائقة العامة كما على أدوات التفكير. فالديوان الأول لقاسم حداد صدر عام 1970، ومنذ هذه اللحظة وحداد يدفع أثماناً باهظة لمواقفه الفكرية والسياسية. كان الديوان طاقة متفجرة في وجه مظالم تاريخية وقف ضدها وسجن من أجل ذلك خمس سنوات، بعد أن انتظم في صفوف اليسار البحريني. كان الشاعر وقتها يعيش في مدينة المحرق وكان قد ترك تعليمه بسبب فقدان الأب لعمله في الصيد. عمل حداد في أشق المهن اليدوية لكي يساعد أسرته، لكن العمل السياسي فتح أمامه باباً واسعاً للتعرف إلى "الانتلجنسيا" العربية على اتساعها. كان اليسار العربي وقتها يتمتع بالكثير من المناعة، وكانت السياسة باباً للشعر عند حداد، لذلك ظلت تجربته، بشكل ما، مؤمنة بوظيفة الفن، غير أنه لم يستمر أسيراً للمحنة الشخصية، كما تجاوز محدودية الرمز المحلي إلى آفاق أكثر إنسانية، وكان كثير التعبير عن ذلك لا سيما عندما كانت تتم دعوته للعودة إلى التراث، إذ كان يستعيد مقولة الشاعر محمد الماغوط  رداً على السؤال ذاته، عندما قال: "أنا لا أستطيع العودة إلى بيتي فكيف أعود إلى التراث؟!" والمعنى هنا أن الشاعر صاحب فضاء حر لا يمكنه أن يعيش أسيراً لقيم الماضي وحده، ولا يمكن حصر انتمائه في جغرافيا بعينها، فهو ابن التراث الإنساني على اتساعه وتعدّده.

تجربة انشقاقية

وربما كان الناقد السوري صبحي حديدي واحداً من أوائل النقاد الذين نبّهوا إلى فرادة تجربة حداد عبر مقدمة ضافية تصدرت الأعمال الكاملة له تحت عنوان "نهر جنح ضد عادة الماء". اعتبر حديدي تجربة حداد، بالمعنى السوسيولوجي، تجربة انشقاقية، ربما لاتساع الفجوة بين عصرية وراهنية تجربته وبين التجارب المثيلة في الجغرافيا الخليجية. وأظن أن تلك التجربة كانت واحدة من أدوات اجتراء عشرات الشعراء في تلك الجغرافيا: الإمارات، الكويت، البحرين، السعودية وعمان الذين أصبحوا الآن من أبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي. ويُعتبر حداد من الشعراء المخضرمين الذين لم ينطلقوا من قصيدة النثر بل بدأوا بكتابة أكثر الأشكال تقليدية، ثم استقر على الشكل التفعيلي، ثم زاوج بين التفعيلة والنثر حتى أصدر ديوانه "قلب الحب" عام 1980 وهو أول دواوينه النثرية الخالصة. أعقب ذلك بعدد من الدواوين المهمة والمؤثرة مثل: عزلة الملكات، الجواشن، علاج المسافة ويمشي مخفوراً بالوعول. وأعمال قاسم حداد كلها، على وجه التقريب تحارب الامتثالية واللامبالاة والسلطة بمعناها الأبوي، وهي الأصنام الثلاثة التي تعبدها الجماهير.

ظل مشروع قاسم حداد مشغولاّ بقضيّتَيْن رئيستَيْن... أولاهما قضية الوظيفة الشعرية، وهي حلقة لا يمكنها أن تتوه في شعره، فكل نص رسالة احتجاج في وجه العالم، ضد الظلم، ضد القبلية والعشائرية وضد كل أشكال التكيف التي تحاول توطئتها حضانات السلطة، أي سلطة. وهو أمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمرجعية السياسية التي أتى منها قاسم حداد، وهي مرجعية ماركسية بامتياز. إن الجوهر الشعري لتجربة حداد يؤكد اعتقاده الجازم بأن الفن يجب أن يكون أكثر نزاهة من أن يخضع لنمط الإنتاج الاستهلاكي الموصوف بأنه نمط لا تاريخي، ومن ثم يستحيل عليه أن يفهم الطبيعة المركبة للفن باعتباره نمطاً تاريخياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالهوية والمعتقد والأيديولوجيا الحاكمة. أما ثاني تلك القضايا، فهي قضية اللغة. وقاسم حداد هنا يختلف، بشكل ما، مع الشعرية التي تلته، إذ يتجاوز دور اللغة عنده وظيفته الأدائية التي تبدو هي الأخرى مثلها مثل فكرة تسليع الفن التي تحدث عنها هربرت ماركيوز. فاللغة عند قاسم حداد هي منتجة للأثر الشعري عبر تجيير خبراتها واستكناه قدرتها على التخييل، وهو في ذلك يأخذ من التراث النقدي العربي جذريته في أن الشعر فن لغوي بامتياز، لكن اللغة لا تعتمل في شعر حداد بعيداً عن الواقع، وهو فارق كبير بينه وبين شعراء استغرقتهم الاشتقاقات وتوالد المعنى وإبطاله في كثير من الأحيان، بحيث بدت لغته في النهاية، تعبيراً عما هو ممكن.

لقد استوفت الأغراض الشعرية لدى قاسم حداد فعلها الإيجابي عبر لغة مناسبة وتركيب ممكن التصور لا يتجاوز الاحتمال. لذلك، بدت فكرة التحديث لديه فكرة ملهمة قابلة للتجدد والاستمرار. وهو ما أعتقد أنه يمثل سبباً كافياً لمكافأة هذا الشعر عبر جائزة مستحقة.   

المزيد من ثقافة