لماذا يثير اصطياد الأميركيين الجنرال الإيراني قاسم سليماني كثير الغرابة في بغداد 3 يناير الجاري، أليست واشنطن تقود حرب مكافحة الإرهاب منذ 2001، وهي التي صنفت إيران منذ وقت مبكر بأنها ثالث محور الشر، وما يسمى "فيلق القدس" في حرسها الثوري ضمن قوائم الإرهاب؟
ليس شيئاً ينبغي أن يثير الاستغراب في نظر المحلل السياسي السعودي الدكتور خالد الدخيل فسليماني لا يختلف عن أسامة بن لادن والزرقاوي وأبي بكر البغدادي في شيء، بل إن أثار الدمار التي خلفها سليماني في بنية النظام العربي، والألغام الطائفية الحسية والمعنوية التي زرعها رجل إيران القوي في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين وحتى أفريقيا ربما تفوق بمراحل تلك التي أحدثتها جميع التنظيمات الإرهابية من حركات طالبان إلى القاعدة وداعش مجتمعة.
ولا يرى المراقبون حتى الدماء المسفوكة من الحركات الإرهابية "السنية" بمعزل عن أيدي سليماني. أليس هو الذي وفّر لها الغطاء والمبررات لإشاعة الجو الطائفي في حالة داعش والنصرة، ووفر لها الدعم الذي يفاخر به تارة ويناور به حيناً آخر لمثل حركة طالبان الأفغانية وتنظيم القاعدة الذي يستخدم لافتته ولا يزال في تصفية الحسابات مع خصومه السياسيين في أميركا وأوروبا والخليج؟ حتى طاولت يده دول عربية وأفريقية في قارة أخرى بعيداً عن إيران هنالك في كل من موريتانيا والسنغال ونيجيريا والجزائر والمغرب، التي اتخذ بعضها موقفاً حازماً من تدخلات مندوبي الولي الفقيه، فطردت مبعوثيه الدبلوماسيين.
ولم تمض أيام بعد الاقتصاص من الجنرال القاتل، حتى انكشف قناع آخر أكبر للنظام الذي يمثله، عندما أعلن الحرس الثوري مكرهاً تحت ضغط المعلومات الموثقة، أنه كان الذي وراء اسقاط الطائرة الأوكرانية، على الرغم من كونها طائرة مدنية انطلقت من أرضيه، ما أثار مزيداً من النقمة ضده ليس فقط خارجياً ولكن بين الإيرانيين أيضاً، ممن كان معظم ركاب الطائرة منهم، وعرفوا عن قرب عصا الباسيج وزملاء سليماني في الداخل الايراني.
يوم واحد صنع الفرق
ما يثير الاستغراب حقاً في نظر الدبلوماسي البريطاني جون جنكيز هو كيف أصبح العالم مختلفاً فجأة بعد تحييد القاتل الطائفي. المسألة تتجاوز الثأر في اعتقاده، من الذي يقف خلف معظم الفظائع في المنطقة وعدد من دول العالم؛ إلى الرسالة التي حملتها الضربة الأميركية للقاتل سليماني.
وقال بتعجب "يا له من فرق يصنعه يوم واحد...عندما استيقظتُ في الثالث من يناير، كان العالم قد تغير. إذ كانت الضربات الأمريكية بالطائرات المسيرة التي أسفرت عن مقتل قاسم سليماني وملازمه العراقي أبومهدي المهندس بمثابة صدمة مفيدة من نوعٍ لم نواجهه منذ عقود. لقد كان سليماني، كما يُعتقد، خارج الحدود. ومن الواضح أن سليماني نفسه كان يظن ذلك. بيد أن هذا خطأٌ كبير".
ولفت حسب مجلة ذا سبيكتايتور البريطانية، إلى أن ما أشعر المقتول بأنه في أمان، هو استمراء الإجرام، فهو "في قمة نجاحه. لقد كان أكبر ممثل عسكري وسياسي خارجي لدولة إقليمية كبرى، وكان قادراً على السفر بحرية حيثما أراد رغم العقوبات. وعلى مدار عقدين من الزمن، كان المهندس خلف جميع المكاسب الاستراتيجية الخارجية لإيران في مواجهة العداء السعودي والأمريكي. وكان وراء الهجمات الإرهابية في لبنان والكويت والبحرين والسعودية وتايلاند وبلغاريا والولايات المتحدة".
تمزيق هناك وتصنيم هنا
لكن الأكثر غرابة من الزاوية العربية، كيف استطاع رجل بدموية الجنرال الإيراني أن يوقع بعرب في حبائله، وهو الذي ظهر من قومه الإيرانيون منددين به حياً وميتاً، حتى إن آلة القمع الإيرانية لم تستطع إخفاء مشاهد تمزيق صوره والتنديد بالنظام الذي رمّزه ومطالبته بالرحيل، في وقت يكيل له من يسميهم السعوديون "أيتام سليماني" العرب في لبنان والعراق واليمن وفلسطين المديح، ويتكلّفون الحزن على مصرعه. فمن يمثلون في ذلك، وكيف خُدعوا بظنهم قاسم سليماني يغني عنهم شيئاً، أو أنه كان صادقاً في نصرة قضيتهم؟
تلك قصة طويلة بالنسبة إلى الباحثين في مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث، الذين وثقوا في دراستهم حول "خريف الغضب العراقي" وأخرى عن تنافس القوى في بغداد، توجهات العراقيين إزاء هيمنة النظام الإيراني على قرارهم السياسي، وفرض قاسم سليماني مليشيا "الحشد الشعبي"، قوة موازية تأتمر بأمره في عقر دارهم.
فبحسب شرائح من العراقيين، لا تزال إيران صاحبة اليد القوية في البلاد، عبر تدخلاتها المباشرة وحلفائها المطبقين لسياساتها، وبالتالي فإن التقارب مع نظامها والتفاهم مع مندوبيه أمثال سليماني مفيد، بسبب انكفاء العرب على أنفسهم، وقصَر نفسهم في دعم عروبة العراق واستقلاله.
لكن الشبان العراقيين الذين ضاقوا ذرعاً بفساد حكوماتهم المتعاقبة المتواطئة مع إيران، كانوا أكثر وعياً باستيعاب أن كُلفة التفاهم مع إيران تعني مصادرة الاستقرار والكرامة، وتحقيق المآرب الخمينية لا العراقية. وهذا ما أشاعت الانتفاضات الجديدة في لبنان والعراق الوعي به في تحليل الباحث السعودي المتخصص في الشأن الإيراني محمد السلمي، فسريعاً ما انتقلت شرارة الاحتجاج إلى الداخل الإيراني الذي جعل يتساءل عما يريد نظامه من إنفاق مقدراته على دولٍ خارج حدوده وشعوب مستقلة، وهو الذي على أبوابه يعاني فقراً وتضييقاً في حرياته وأساسيات عيشه.
قتلى سليماني عرب وايرانيون
غير أنه بالنسبة إلى زعيم حزب الله حسن نصر الله وزعيم جماعة أنصار الله عبدالملك الحوثي ورئيس حركة حماس إسماعيل هنية، فإن قاسم سليماني كان رمز المقاومة، وبالتالي فهو يستحق لقب "شهيد القدس"! هنا استدرك أخيراً حتى بعض المريدين لتيار ما يسمى الممانعة حينا والمقاومة حيناً آخر، وذكّروا مندوبي سليماني في المنطقة العربية بالوهم الذي أسكرهم به الجنرال الذي لم يؤذِ إسرائيلياً واحداً بينما قتل آلاف العرب. فماذا جنى اللبنانيون من حزب الله؟ واليمنيون من الحوثي؟ والفلسطينيون من حماس، غير الانقسام والفقر واللجوء وكراهية الجوار، وخسارة أعداد هائلة من الأنصار والمتعاطفين؟
وكأن الموقف من مقتل سليماني أيقظ في نفوس العديد من المخدوعين به، في لمحة وعي نادرة، أو غضبة لا ندري إذا كانت ستتوسع أم لا، ساعد في تأجيجها أكثر غلو الحمساويين على سبيل المثال في محاولة ابتزاز أشقائهم العرب بإظهار تضامن متكلف مع النظام الإيراني، وإعلانهم النية بإطلاق اسم سليماني على أحد شوارعهم الرئيسة، بما جعل أنصارهم في موقف حرج، أمثال ياسر الزعاترة الذي بنى أكثر صيته الإعلامي في تبني خطاب حماس والشعارات ضد إسرائيل، لكنه لم يجد ما يدافع به نحو تأبين هنية للقاتل سليماني، فأقر بأنه خطأ لا يغتفر، حتى وإن حاول تنميق نقده بأن ذلك لا يلغي دعم الإيرانيين المقاومة على حد زعمه.
الحسين في خدمة سليماني
بينما انشغلت أطراف أخرى بالسخرية من التعاطي الإيراني الخرافي مع مقتل الجنرال الطائفي، والعرب الذين يحاولون مسايرتهم في ذلك، على هيئة "النائحة المستأجرة"، فهذا الكاتب العراقي نضال صابر، يذكّر المتباكين على القتيل بأن الحسين رضي الله عنه الذي زعموا أنه في استقباله، "أنتم وقتيلكم آخر همه".
ويلخص الخديعة التي أوقع سليماني أتباعه العرب في فخها بملاحظة أنه "لأكثر من ثلاثين عاما تطبل ايران بأنها صاحبة مشروع محاربة اسرائيل من خلال فيلق القدس الايراني ولهذا فهي شكلت أشكال وألوان من المليشيات والفصائل الإرهابية في العراق، لبنان، اليمن، سوريا، فلسطين، وحتى في افريقيا وأمريكا اللاتينية لكي تحارب بهم اسرائيل وتقضي على امريكا والغريب العجيب ان ايران بقيادة شهيد القدس قاسم سليماني قتلت مئات الألوف من سكان العراق وسوريا واليمن ولبنان وهجرت مئات الألوف من سكان العراق وسوريا واليمن وذبحت عشرات الألوف من أطفال العراق واليمن وسوريا لكنها لم تقتل جندي إسرائيلي واحد خلال مشروعها المقدس في تحرير فلسطين وهذا يدل على ان ايران كانت تمرر مشروعها التوسعي وتضحك به على الشعوب العربية والإسلامية".
ويوثق الدبلوماسي البريطاني الذي خدم في الشرق الأوسط خلال الأربعين سنة الماضية، كقنصل عام في القدس، ومديراً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث وسفير في سوريا والعراق، الدور الذي لا يريد عرب سليماني أن يتذكروه، فيشهد بأن الرجل "كان منسق أعمال التخريب الإيرانية في جميع أنحاء المنطقة، ... ودول الخليج، وكانت تشملنا غالبًا".
ومع ذلك يقر جنكيز بسر تملك قاسم زمام المبادرة مع بعض العرب المخدوعين، واصفاً إياه بأنه "رجل أسرة متدين، ومجرمًا معسول الكلام بكل تأكيد. ولكنه كان مستعدًا للتملق والتهديد والترهيب وارتكاب جرائم قتل إذا تجاوز أحدٌ معه الحدود. وكانت يديه ملطخة بدماء مئات أو آلاف السوريين والإيرانيين والعراقيين. وكانت القيادة الإيرانية تحبه على وجه التحديد لأنه جلب إليهم القوة والنفوذ".
الجامعة العربية مسؤولة أيضاً
وفي حين يرى أمثال جون مقتل سليماني فرصة للمراجعة الشاملة للمواقف الدولية من السياسات الإيرانية برمتها، لا يزال العرب أيتامه مشغولون بمدّ سرادق العزاء في مثل خطاب نصر الله هذا الأسبوع، بيد أن جامعة الدول العربية الأقرب إلى ملف القدس الذي كان محور الاستغلال وشماعة الإيرانيين، لا تزال خطواتها تثير الانتقاد، إذ يرى المهتمون أن مواقفها الخجولة من تدخلات الآخرين في القضايا العربية وعدم أخذها بزمام المبادرة، جعل الشأن العربي دُولة بين الدخلاء من كل الأقطار.
وربما هذا الذي يحاول العاهل الأردني عبدالله بن الحسين، أن يجد له دعماً غربياً وعربياً، فعلق في حوار مع "فرانس 24" على مقتل سليماني بالقول "ما حصل قد حصل، لكننا على أعتاب عقد جديد وليس فقط عام جديد، ونأمل أن نقوم في الأشهر القليلة القادمة بتصويب الاتجاه في المنطقة، من خلال السعي للتهدئة والحد من التوتر.. فكل شيء في هذه المنطقة متشابك، فما يحصل في طهران سيؤثر على بغداد ودمشق وبيروت، وعملية تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين".