في اليوم الـ88 استعادت انتفاضة الشعب اللبناني التي اندلعت في الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي زخمها، تحرَّك ألوف اللبنانيين في شوارع المدن الرئيسة من الشمال إلى الجنوب.
وشهدت بيروت خصوصاً مسيرات ضخمة لتأكيد مطلب المواطنين الأساسي في قيام حكومة إنقاذ من اختصاصيين نظيفي الكف، تُخرج البلاد من الأزمة التي تتخبط فيها، وتحفظ حقوق الناس وتفتح الباب أمام تغيير حقيقي في السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المفروضة، التي تفاقمت نتائجها خلال السنوات الأخيرة.
كانت الانتفاضة هَمِدت بنسبة ملحوظة خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد تكليف نائب رئيس الجامعة الأميركية في بيروت حسَّان دياب تشكيل حكومة جديدة إثر إعلان الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري امتناعه عن الترشُّح إلى المنصب مجدداً.
واستمرَّت مجموعات من القوى المُنتفضة في تنظيم تجمّعات وتحرّكات متفرقة أمام منزل الرئيس المُكلّف، وتوجهت أخرى إلى مقرات المصارف احتجاجاً على امتناعها عن دفع مستحقات المودعين، ووضعها يدها على ودائعهم.
وتحرَّك متظاهرون آخرون نحو مراكز شركة الكهرباء الوطنية التي صُرفت عليها مليارات الدولارات على مدى عقود فيما هي لا تُلبي الحد الأدنى من حاجات الناس إلى التيار الكهربائي.
ينبغي الاعتراف أن الموجة الكبرى للانتفاضة الشعبية تراجعت خلال هذه الفترة، ولم يكن كافياً التذرّع بحالة الطقس والأمطار الغزيرة لتفسير الابتعاد عن الشارع، فالحالة السياسية العامة، من ابتعاد أو إبعاد الحريري، وما أثاره من ردود ذات طابع فئوي في وسط الطائفة السُّنية، إلى تكليف دياب وصدور أصوات تدعو إلى انتظار ما سيقدمه، كلها عوامل أسهمت في خلق حالة انتظار لن تستمر طويلاً.
ومثل العادة، صبَّ أركان السلطة زيتاً إضافياً إلى نار الانتفاضة التي بدا لهم أنها خُمِدت، فبعد مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني خرج أمين عام حزب الله حسن نصر الله في خطاب متوتر، هدد فيه بحرب شاملة على الوجود الأميركي بالمنطقة، لا تنتهي إلا بإزالة هذا الوجود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غابت مشكلة اللبنانيين والمأساة التي يعانونها عن اهتمامات الرجل البارز في المنظومة الإيرانية، فبالنسبة إليه ليس لبنان إلا ساحة من ساحات المواجهة التي ستخوضها الدولة الإسلامية في طهران ضد الولايات المتحدة الأميركية.
وفي المنحى نفسه سارت القيادة اللبنانية الرسمية التي سارعت إلى إدانة اغتيال سليماني، مبديةً أحرّ تعازيها إلى قادة إيران، فيما رفضت في سبتمبر (أيلول) الماضي إدانة الاعتداء على "أرامكو" في مجرد موقف مبدئي.
أعقب ردّ الفعل هذا من جانب تحالف السلطة اللبنانية، عودة قوى هذا التحالف إلى نغمة تشكيل حكومة سياسية، تضم قوى السلطة نفسها بحجة الاستعداد لمواجهة الانعكاسات المحتملة لتصاعد التوتر الإيراني الأميركي، وعاد تشكيل الحكومة إلى التعثر، إذ إن العودة إلى جمع الفرقاء في حكومة جديدة هو تحديداً ما ترفضه الانتفاضة وتدينه غالبية المواطنين.
وفي الأثناء ازداد الوضع المعيشي تدهوراً، وعلى وقع مساعي الاندماج بالمحور الإيراني، زادت سطوة المصارف على مدخرات المواطنين ورواتبهم ومعاشاتهم التقاعدية، وخسرت هذه المعاشات والرواتب ثلث قيمتها على الأقل، وأدّى تقنين السحوبات بالعملة الأجنبية من البنوك إلى انتعاش سوق صرف موازية للدولار تجعل المصارف وأصحابها، وهم من أركان السلطة ومموليهم، يجمعون ثروات إضافية على حساب صغار المودعين، بعد أن تمكّن سياسيون ورجال أعمال من تهريب مليارات الدولارات إلى خارج لبنان.
مرة جديدة، أيقن اللبنانيون أنه لا جدوى من الرهان على طبقة سياسية فاسدة، مستعدة للتضحية بهم وبوطنهم لمصلحة أجنبي ودائماً لتوفير مصلحتها الخاصة، وراقبوا بدقة كيفية الرد الإيراني المنضبط على أميركا، وكيف قاد إلى فضيحة إسقاط طائرة أوكرانية ومقتل مواطنين إيرانيين، ما أثار مجدداً غضب الشارع الإيراني.
وتابع اللبنانيون زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانتصارية إلى دمشق في أعقاب مقتل سليماني، و"أوامره" بالانضباط وعدم التصعيد والانجرار إلى حروب، ومن كل ذلك خلصوا إلى ضرورة العودة إلى إمساك قضيتهم بأنفسهم وفي شارعهم، فمسألة التغيير السياسي أساسية، وهي المفصل في إنقاذ بلدهم، وسياسيو الماضي لم يفعلوا سوى تقديم الحوافز الإضافية لإشعال ثورتهم مجدداً.